كان عندنا في مصر فلاحون !!

كان عندنا في مصر فلاحون !
الفلاح المصري في قريتنا زمان ، الزراعة حرفته ، أعياده وأفراحه في مواسم الحصاد ، حقله هو دنياه ، يعيش في بلدته الريفية الرحبة حياته هانئا مرتاح البال ، كما يغني مطربه الأستاذ الموسيقار محمد عبد الوهاب ، يعمر الأرض ويسقيها بعرق محبته لها ، فتعطيه من خيرها الوفير كل ما لذ وطاب ، عزوته أسرته وجيرانه الطيبون المتسامحون ، يتبادلون العمل في حقول بعضهم البعض بأولادهم ودوابهم في تكامل لاتعرفه المدينة ، يغنون سعداء وهم يجنون القطن ، أو يشتلون الأرز ، وهم يحصدون القمح أو الذرة أو الفول بألحان (فلوكلورية) عذبة ، طعامهم من إنتاجهم خضروات الأرض التي يزرعونها بكدهم ، يجدون في حلاوة ( السريس ) الذي ينبت وسط البرسيم ، طعم ( خس الكابوتشي ) ، ولهم في ( الجلوين أو الجوع ضاع ) شبعٌ وريُّ .
يتوضأون من ماء النيل الجاري فيقيمون الصلاة على حافة قناة الري شريان حياة حقولهم عندما تتهادى إليهم نغمات الأذان الشجية من مسجد القرية الوحيد في الظهر أو العصر ، أما بقية الأوقات فيضمهم الجامع بإمامهم في جماعة ، يطبخون ألوان الخضار الشهية ( من بامية أو قرع أو ملوخية)
زوجاتهم ماهرات في صناعة كل شيء ، تخلل (اللفت والفلفل والخيار) وتعد الجبن القريش في الحصير المخصص ، والسمن البلدى بالمخاضة ، ويشوون ( كيزان الذرة ) على الحطب الجاف في الحقل ، أو بعد عمل الخبز الطري في الأفران اللبنية التي هيئوها بأيديهم ، يعود الفلاح بعد مروره على حقله بعد صلاة المغرب بالبقدونس والنعناع من الحوض الصغير بطرف حقله المليء بأنواع الفجل والجرجير وخضرة السلطات والمحاشي . تعودوا أن يتركوا خطا وسط الحقل لشجيرات الطماطم
والسمسم ، والباذنجان ، لاتؤثر على المحاصيل الرئيسية ، تغنيهم عن الشراء ، يتبادلونها بينهم في كرم وسخاء ، بيوتهم تسمع فيها صياح الديكة وهديل الحمام وأصوات الأوز والبط ، وأحيانا تراها عائدة في أسراب جميلة تعرف الطريق إلى بيوتها بعد رحلة في الترعة القريبة من القرية .
يربي الفلاح أضحيته من الغنم أو الماعز قبل عيد الأضحى بوقت طويل .
الفأس سلاحه يحملها على كتفه تعاونه في ري حقله وعزقه وإزالة طفيليات النبات حتى لا تلتهم غذاءه ، يشق الأرض بمحراثه الخشبي ذي السلاح الحديدي الناصع عند تجهيز الأرض للمحصول الجديد ، قد يمتلك دابتين أو واحدة ، ومركبه يوم السوق حماره المطيع يلبس أبهى ملابسه ويضع خرجه ويحمل معه ما زاد عن حاجة بيته من خيرات الله ونعمه عليه ؛ ليبعه ويشترى بثمنه الفاكهة واللحم وما يحتاجه الأولاد من الملابس والحلوى وبعض الهدايا البسيطة التي تدخل البهجة على قلوبهم .
العمل بين أفراد الأسرة منظم وموزع عليهم ، كل يعرف واجبه قبل أن يطالب بحقوقه ، الصبي يوم ري الأرز أو القطن أو أي محصول في حقل أبيه يجلس هناك بجوار الساقية ليحث الجاموسة أو البقرة على الدوران وهي مغماة العينين لتنساب المياه في مجرى الماء الموصل إلى الحقل ، تحتضن الساقية شجرة توت عتيقة أو جميز شامخة تظلل دائرة الساقية على الدابة التي تؤدي دورها راضية ؛ وهي تجتر طعامها حتى يشعر الفلاح بأنها تعبت ، فيريحها أو يستبدلها بغيرها أو بدابة جاره الذي يزامله في تعاون انتظارا لعيد الحصاد ، يجلس الصبي ومعه ( سنارة الصيد ذات الخيط المشدود إلى أحد أعواد الغاب ) على حافة الترعة ليصطاد السمك ، والزروع تهتز طربا وهي ترتوي وصاحبها يرعاها هكذا كنت أسمع من أبي الفلاح ، وهو سعيد تحت وطأة الشمس الحارقة ، وعند الظهيرة تأتي
قيلولة الغذاء والراحة عند الساقية في ظل الشجرة الوارفة .
وفي الجرن الواسع أمام منزل الفلاح يُنقل حطب القطن بعد الجني ، ليرفع فوق أسقف المنازل ، وكذا قش الأرز بعد الدراس ، وأعواد الذرة الجافة ، وقود أفران الفلاحين ، أتذكر النورج الحديدي آلة الدراس المعهودة في الريف ، ترص أحمال القمح الذهبي ، أو الفول أو ( الرباية ؛ البرسيم البني وبراعمه الممتلئة بحبيبات البرسيم التقاوي ) في موعد دراس كل محصول يجهز ذلك النورج وتركب فوقه الدكة الخشبية المزركشة ، ويعتيله الفلاح أو أحد أولاده ، وتعلق الدواب لتدور به في إحكام القائد الموجه فوق دائرة المحصول لتفصل الحبوب عن الأعواد والسنابل وبراعم البرسيم الجاف بالعجلات الحديدية الحادة ، وبأرجل الدواب التي تجر النورج ، وتصبح الأعواد ( تبنا ) تتغذى عليه الحيوانات في الحظائر والزرائب بعد أن يدس فيه بعض الحبوب لتلتهمه في مواسم انعدام الخضرة والبرسيم ، ينتهي الدراس ويأتي دور ( المِذَرَّاوِي ) ليرفع بمذراته الخشبية التي تشبه الشوكة الكبيرة
التي نأكل بها ( المكرونة ) ولوحه العريض الخشبي أيضا الذي يشبه الملعقة الكبيرة ، فيساعد الهواء
على ابتعاد ذرات التبن الخفيفة وانفصالها لتتساقط حبوب المحصول في كومة كبيرة ، وأمامها تل من التبن المتموج كرمال الصحراء أو كأمواج البحر حتى نهاية الجرن . ثم يعبأ المحصول في الأجولة ، ويحرص الفلاح المؤمن والقانع بما رزقه الله على إخراج زكاة محصوله يوم حصاده ، كما أمره الله .
وفي حصاد الذرة ، يصنع سورا من الأعواد الجافة ليضع بداخله ( كيزان الذرة بعد فصلها عن الأعواد لتجف بورقها أو تقشر وتترك أيضا لتجف لتفريطها وعزلها عن ( القوالح ) التي يستخدمها للتدفئة في الشتاء في المناقد المنزلية الفخارية .
توضع المحاصيل في الصوامع الطينية التي صنعتها الأسرة لتخزين طعام العام ، لها فتحة من أعلاها ، وأخرى من أسفلها للسحب منها للطحين الشهري أو الأسبوعي .
ما يكاد الفلاح ينتهي من صلاة العشاء ، حتى يأوي إلى بيته فيطمئن على دوابه في الحظيرة ، وعلى أولاده أنهم متواجدون ، فيجلس معهم لتناول العشاء أو للسمر قليلا ، ثم ينام الجميع بعد عناء يوم من العمل الشاق ، ويعم القرية الهدوء والسكينة إلا من نباح الكلاب ونقيق الضفادع في حقول الأرز المجاورة .
ما أحلى عيشة الفلاح زمان .!!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأوامر الإلهية في الآيات القرآنية

البلاغة والمجاز

الكلام ، والقول والحديث ... ( فروق لغوية )