بقية ( التخليل ) الشهية

عندما اجتمع الأهل والأقارب عند نجاتي لتهنئته على المولود الجديد الذي رزق به . كان الرجال والشباب فوق سطح العمارة
لتناول العقيقة التي دعاهم اليها والد المولود . ومعهم بعض الأصدقاء المقربين من الجيران .
وكان الحفل بالمولود مع أمه (نرمين ) والشموع ورش الملح وأغاني الوليد الجميلة , ودق الهون , والتكبير في أذن المولود
يتم داخل شقتهم الواسعة , ويضم الجمع النساء المدعوات والفتيات من أبناء العائلة وصديقاتهن والأطفال الصغار ذكورا واناثا
بعد أن تناولوا طعام العقيقة من قطع اللحم فوق صواني الفته وأنواع المخللات الشهية , وأخذوا يهنئون الأم بسلامتها وبمولودها الجديد الذي كانت تحمله
(نور) معظم الوقت في سريره الصغير .
وكان الحديث يدور بين السيدات عن سر تسمية المولود بهذا الاسم الغريب :( نبق ) , والأم تشرح لهم أنها وأسرتها تحب المشهيات والمقبلات من أنواع الطرشي التي تصنعها بمهارة وتتفنن في أصنافها , واطلاق اسمائها على أفراد العائلة كألقاب تميزهم بصفات
يتسمون بها عندها : فلان كذا يشبه المخلل كذا , وفلانة شكلها كذا تشبه كذا .
ولما أضافت الأم نرمين نوعا جديدا لعملية التخليل التي تقوم بها سرا ووضعته مع تشكيلة الطرشي , وتذوقها نجاتي وأعجبته , وسأل عنها
فقالت له : هذا ( نبق ) مخلل , وكان قد سبق أن خللت المانجو وأعجبتهم كثيرا .
واتفقت مع زوجي أن نسمي المولود الجديد بهذا الاسم بدل أن نطلق عليه لقبا آخر غير اسمه .
هكذا انتهى الحديث عن التخليل الأول لطرشي الست نرمين بضحكات عالية من السيدات والفتيات والأطفال وهم يرددون :
نبق يا نبق يارب تعيش وتكبر زينا . ونقول لك يا أحلى طرشي عندنا .
ويأتي الحديث ذو الشجون فوق السطوح مع الرجال وبعد أن عرفوا لماذا سمى الشيخ نجاتي ولده ( نبق) وشرح لهم عملية تخليل الطرشي
التي تقوم بها زوجته باذابة الماء الملح بكمية مناسبة لكمية المخلل المختار , واحكام غلق البرطمانات التي تضعها فيها , ثم تقوم لمدة ثلاثة أيام بتقليب البرطمانات ليتخلل الماء بين أجزاء المخللات حتى يستوي تماما ويبدأ تغير لونه , ثم تضعه بالثلاجة في الركن الخاص بالطرشي
وفي اليوم الخامس تبدأ في استخراج الكميات المطلوبة للمائدة كطبق رئيسي . وضحك الحاضرون من حديث الشيخ نجاتي .
ولكنه أضاف قائلا :
اسمعوا يا جماعة أنا عندي حديث آخر بمناسبة التخليل , والحديث ذو شجون , وصمت الجميع لسماع نجاتي وماذا سيقول :
عملية التخليل زي ماهي في الأكل . موجودة أيضا في الدين والشرع والسنة .!!
فقال الطبيب (حكيم ) كيف ياشيخ نجاتي ؟ المخلل خطر على المصابين بضغط الدم المرتفع وعلى المصابين بكثير من الأمراض !!
فرد نجاتي : أنا لاأقصد الطرشي و وانما سأحكي لكم قصة وردت التخليل في كتب السير :
( يروى أنه في عصور الاسلام الأولى , كان الحسن والحسين أولاد على بن على أبي طالب رضي الله عنهم جميعا يتوضآن في زمزم بالحرم المكي الشريف , فشاهدا رجلا من البادية يتوضأ بجوارهما , ولم يحسن الوضوء , فقال الحسن لأخيه الحسين : ان هذا الرجل
قريب عهد بالاسلام ونريد أن نعلمه وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم , فوافقه الحسين , فتقدما الى الرجل وقال الحسن :
ياعم أنا وأخي هذا اختلفنا ونحن نتوضأ للصلاة أينا أحسن وضوءا ؟ فهو يدعي أنه أفضل مني وضوءا , ونريد أن نحتكم اليك ؟
فقال الرجل : فليتوضأ كلاكما أمامي حتى أرى من أفضلكما وضوءا .
وتوضأ الحسن فقام (بتخليل ما بين أصابع يديه ورجليه وأوصل الماء الى كل جزء في يديه ورجليه )
وقام الحسين فتوضأ بعده فأحسن الوضوء بأركانه وسننه من استنثار للماء من أنفه وتخليل لشعر رأسه وبين أصابع يديه ورجليه
فقال الرجل لهما : والله ان وضوءكما أفضل من وضوئي , فما قمت بتخليل شعرى ولا بتخليل أصابعي , فمن أنتما يرحمكما الله ؟
قال الحسن : أنا الحسن بن علي بن أبي طالب وهذا أخي الحسين
فأقبل عليهما الرجل يقبلهما ويقول : سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم , ما أحسن تعليمكما لي الوضوء وتخليل شعري وأصابعي .)
واختتم نجاتي حديثه بالصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم , وشكر المدعوين على حضورهم وتشريفهم وحسن استماعهم له .
وقال لهم وللحديث شجون باقية في الحلقة القادمة .

وفي الجلسة المعتادة بعد عصر الجمعة : بدأ نجاتي قوله :

قلت لكم: (التخليل لفظ واحد ), وله معنيان , كما قرأنا في الحديث ذي الشجون
المعنى الأول : هو عملية تصنيع الطرشي أو المخللات .
والمعنى الثاني: هو سنة تخليل مابين الأصابع بالماء في الوضوء .
وفي البلاغة : اذا قرأت جملة هكذا ( أحب التخليل مع الطعام , والتخليل مع الوضوء ) فبين الكلمتين ( التخليل ) ما يسمى : بالجناس التام وهو اتفاق اللفظتين في النطق وعدد الحروف وترتيبها وتشكيلها ,كما في المثال.
والجناس : من المحسنات البديعية للأسلوب الأدبي ومنه التام والناقص , وقد تحدثنا عن التام ,
واما الناقص فمنه ؛ نقص كلمة عن الأخرى حرفا مثل :
بثينة تزري بالغزالة في الضحا = كأن أباها الظبي أو أمها مها
ومنه اختلاف حرف واحد بين الكلمتين مثل:نور العلم ونار الجهل ( بين نور ونار )
ومنه اختلاف ترتيب الحروف مثل :
بيض الصفائح لاسود الصحائف = في متونهن جلاء الشك والريب
( بين : الصفائح والصحائف )
ومنه اختلاف التشكيل في الكلمتين مثل :
الحلم سيد الأخلاق , وتراه في المرء اذا بلغ الحلم ) فالحلم الأول بكسر الحاء والثانية بضم الحاء واللام .
والجناس يثير الذهن للتفكير في المعنى المراد من اللفظتين حسب السياق الذي وردتا فيه .
وهذا من البلاغة والقدرة على البيان بأسلوب أدبي .
====================
أما اذا قلت : ( أحب التخليل الجيد لأنه من النظافة )فقد ذكرت الكلمة التخليل ) مرة واحدة في المثال أو في أسلوبك , فهذا أيضا من المحسنات البديعية للأسلوب الأدبي .
ويسمى في البلاغة التورية)
ومعناها : أن تطلق : لفظا , وتريد به معنيين , المعنى الأول : قريب الى الذهن ,( عملية تصنيع الطرشي) وهو غير مقصود في أسلوبك , والمعنى الثاني بعيد , وهو ( سنة تخليل ما بين الأصابع ) وهو المراد من أسلوبك .
والتورية أيضا : تثير الذهن في التفكير في المعنيين والوصول الى المعنى المقصود وهو المعنى البعيد .
==========
والى هنا ينتهي درس الشيخ نجاتي , وهو يشرح المحسنات لطلاب المرحلة الثانوية الذين يحضرون للمسجد بعد صلاة العصر من كل يوم جمعة , مساعدة لأولاد الحي في اللغة العربية وبلاغتها .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأوامر الإلهية في الآيات القرآنية

البلاغة والمجاز

الكلام ، والقول والحديث ... ( فروق لغوية )