البحر في قصيدة للشاعر د. جمال مرسي

(هوالبحر أنت)
شعر : د. جمال مرسي http://www.almolltaqa.com/vb/showthread.php?t=5456
5
لِزَامٌ عَلَيكِ
لِزَامٌ عَلَيَّ
ـ ونَحنُ نَخُوضُ الخِضَمَّ الجَدِيدَ
أَيَا رَبَّةَ البَحرِ
واليَاسَمِينِ المُطرَّزِ بِالحُزنِ ـ
أَن نَتَرَوَّى

رَوِيَ من الماءِ واللَّبَنِ، كَرَضِيَ، رَيًّا ورِيًّا ورَوَى، وتَرَوَّى وارْتَوَى، بمَعْنًى،
تقديم للخبر يفرض على المحبوبة المخاطبة وعلى الشاعر المتكلم،التزام الامتلاء وذهاب الظمأ بخير البحر ومائه الكثير ، ثم يأتي بين الخبر والمبتدأ البحر الواسع الذي يخوضانه وهو رمز للحياة ، والخِضَمُّ البحر لكثرة مائه وخيره، وبحر خِضَمٌّ؛ قال الشاعر:
رَوافِدُهُ أَكْرَمُ الرَّافِدات= بَخٍ لكَ بَخٍّ لبَحْرٍ خِضَمّ
والخِضَمُّ أَيضاً: الجمع الكثير
وينادي على مالكة البحر وصاحبته ، وصاحبة الجمال الحزين

هُوَ العُمرُ كَالمَاءِ مُنفَلِتاً
مِن أَصَابعِ نَشوَتِنَا
رَاقِصاً كَالسَّرَابِ عَلَى وَقعِ رِيحٍ
تُضَاجِعُ نَخلةَ أَيَّامِنَا البَاقِيَهْ
أَيَنبُتُ نَعنَاعُ شَوقٍ
عَلَى صَخْرَتيِّ انتِظَارِي ؟
أَمِ المَوتُ والرِّيحُ يَقتَلِعَانِ جُذُور اصطباري؟َ
عَلَى بَابِ قَصرِكِ
أَفنَى وَحِيداً
يتفرق العمر ويتشتت، كَتَفَلِّتِ الماءِ من أصابعنا المنتشية ،
وفي صورة متراكبة يصور الماء الذي يشبه به تسرب العمر
بالراقص المهتز في خيالات اللاشيء كالسراب المترائي بأثر الريح
وهي تَهُزُّ أعمارَنا الطويلةَ ( نخلة أيامنا الباقية ) استعارة وتشبيه
ثم يتساءل في استغراب ونفي ؛ مقررا أن ذلك الماء السرابي والريح العقيم وصخرة العمر الطويل والانتظار المؤلم وجذور الصبر العميقة
لاينبت رائحة حب أو شوق ، ( نعناع شوق ) تشبيه بليغ يوضع عطر الحب ، أم سيفنى العمر بهذا الشر الذي يقتلع جذور الأمل
على باب قصرك المنيع ، فأموت وحيدا بلا معين .؟!!

تُدَثِّرُنِي بِالمِياهِ يَدُ البَحرِ
تَحمِلُنِي للنِّهايَةِ أَموَاجُهُ العَاتِيَهْ
هُوَ البَحرُ عَينَاكِ
فَلتَرفُقِي
إِن حَمَلتِ عَلَى هُدبِ مَوجِكِ
قِصَّةَ أَمسِيَ
لِلهَاوِيَه
ْمناجاة للبحر الدافىء وأمواجه الشديدة وقوته الطاغية ( يد البحر )
وهو يسبح في عيني محبوبته ( ربة البحر ) ( العيون الزرقاء ) كمياه البحر
وهو يعطي المشبه قوة وجه الشبه أكبر منها في المشبه به للمبالغة في إبراز جمال عينيها . ويسارع إلى طلب الرفق به من قساوة ضياع قصة ذكرياته الجميلة إذا طوحت بها أمواج هدب عينيك إلى القاع والهلاك .
هُوَ البَحرُ سِرِّي و طُهرِي
وأَنتِ جَزِيرَتُهُ النَّائِيَهْ
فَكَيفَ سَتُقلِعُ مِنِّي إِلَيكِ مَرَاكِبُ أحلامي الواهية؟
و كَيفَ تُقَاوِمُ طَيشَ الرِّمَاحِ ،؟
جُنُونَ الرِّيَاحِ
و تِلكَ الجِرَاحِ الَّتِي أَنبَتَت فِي ضُلُوعِ الكليم ِ
أَزَاهِيرَ أَحزَانِهِ القَانِيَهْ

تستمر مناجاته لمحبوبته عن البحر الذي يهواه ويبثه شكواه وأسراره وإخلاصه ،كالصديق الوفي ، ويخاطبها بأنها بعيدة
في هذا البحر كالجزيرة النائية ، التي لايمكنه الوصول إليها
بخيالات الوهم من مراكب الأحلام الضعيفة .وهجمات الرماح الطائشة برياح الجنون القاذفة ، والفؤاد المتوجع من جراحه
بزهر الألم القاني الحزين .
هُو البَحرُ أَنتِ
دَعِينِي ،
و مَا قَد تَبَقَّى مِنَ العُمرِ أُرسِي الشِّراعَ
على شَاطِئِ النُّورِ
فِي شَفَتَيكِ
فَأَقتَاتُ كَالطَّيرِ عُشبَ الأماني ( عيناك بحري فاتركيني أستمتع بإرساء شراعي على شاطئيها ، الهناء والسعادة في شفتيك المضيآن بالأمل.

أُدَاوِي جِرَاحِي بِصَوتِكِ حِينَ يَقُولُ : حَبِيبِي
ونبضك فِي رِحلَةِ العُمرِ زَادُ الغَرِيبِ
أَشُدُّ بِهِ ظَهرَ لَحْظَاتِيَ الفانية
فَلا تَهجُرِي الرَّوضَ
يا أُقحُوانَتَهُ الزَّاهِيَهْ
انتقل الشاعر بمهارة من تذوق بحره العذب ، إلى الطرب مع ألحان نبضه ، ومع نغمات صوته ليبرز تمتع حواسه ببحره الذي يتغنى به ألا وهو أنتِ
وفي نهاية المقطع يشم عبير اللحظات السعيدة المنتهية بالتماسه عدم الهجر من زهرة أقحوانته المشرقة الجميلة . ( استعارة في جعل الصوت دواءً وعلاجا لجراحه ) (وتشبيه في رحلة العمر ) بليغ بتصوير العمر رحلة بمرور أيامه ، ثم التشبيه في جعل نبص الصوت غذاء لغربته .
ثم تتراكب الصورة فيصبح ذلك النبض طاقته التي يعيش بها لحظاته الفانية ، ولأنه أحس بقيمة تلك النبضات يبادر مسرعا بطلب عدم الهجر
حتى لا يفرغ البستان من بهائها .في استخدامه فاء السرعة ( فلا تهجري)
هُوَ البَحرُ أَنتِ
أُحَدِّثُهُ كُلَّ لَيْلَهْ
عن الطفل فيَّ تُعَاوِدُهُ الذِّكرَيَاتُ
عَنِ الطِّفلِ يُمسِكُ ظِلَّهْ
يسابقه في الحُقُولِ الفَرَاشُ
فَيَسبِقُهُ كَي يَفُوزَ بِقِطعَةِ حَلوَى
تُقَدِّمُهَا كَفُّكِ الحَانِيَهْ
ويكرر الشاعر محور قصيدته المفتون به ألا وهو البحر مايعنيه بالمحبوبة فيتحاور معه مشخصا إياه على طول امتداد ليله ، في استعارة مكنية تشخيصية تعطي البحر حياة وروحا ، يتذكر بها طفولته وعشقه لطيف بحره وهو يجري خلف ظله يسابقه في براءة ، مع الفراش المتطاير في الحقول التي رواها ماؤه ،فيفوز بالسبق راجيا في عطائك أيها الحبيب ، ( استعارة في معاودة الذكريات وتجسيد الظل ليمسك به )وإعطاء الكف صفة الإنسان الحاني والتسابق مع الفراش .

هُوَ البَحرُ أَنتِ
أُحَدِّثُهُ عَن أَدَقِّ التفاصيل ِ
عَن نَزَقِ الوَلَدِ الغَجَرِيِّ الذي ضَعضَعَتهُ المَوَانِئُ
و هْوَ يُنَقِّلُ أَقدَامَهُ فِي البِلادِ البَعِيدَةِ
بَحثاًعَنِ الخُبزِ
يَحرُسُهُ أُخطُبوطُ المَرَافِي
عَنَ الثَّوبِ
يستره من هَجِيرِ الشَّوَارِعِ ، بَردِ المَنَافِي
عَنِ الخَيطِ يَرتِقُ أسمَالَهُ الباليه
ولا يتوقف حديث الشاعر مع البحر ، عند استعادة ذكريات الطفولة ، بل يتعداه إلى حديثه عن أدق التفاصيل من طيش الشباب النَّزَقُ: خفة في كل أَمر وعجلة في جهل وحُمْق ورعونته ،وما عاناه في حياته من تنقل بين الموانيء سعيا لاجتلاب الرزق في البلاد البعيدة؛( استعارة في ضعضعته المواني)أخضعته وأذلته :التضعضع هو: الخُضُوعُ والتذلُّلُ.
قال أَبو ذؤيب:
وتَجَلُّدِي للشامِتِينَ أُرِيهِمُ= أنّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لا أَتَضَعْضَعُ
عن كيف كان يطعم ، وكيف كان يلبس ،وكيف كان ينام على شاطوايء الموانئ ، مع تقلبات الجو من هجير الحر إلى برد الغربة في البعاد ( استعارة تصريحية في كلمة ( المنافي ) يعبر بها عن غربته . مع وجود خيط الحب والعشق يصل به ما بينه وبين هواه . الرَّتْقُ إِلحام الفَتْق وإِصلاحُه. رَتَقَه يَرْتُقُه ويَرْتِقُه رَتْقاً فارْتَتَق أَي التأَم.
اقتباسا من قوله تعالى : في التنزيل:( أَوَلم يرَ الذين كفروا أَن السماواتِ والأَرضَ كانتا رَتْقاً ففتَقْناهما)؛ قال بعض المفسرين: كانت السموات رتْقاً لا ينزل منها رَجْع، وكانت الأَرض رتْقاً ليس فيها صَدْع ففتقهما الله تعالى بالماء والنبات رِزْقاً للعباد. ( هو البحر أنتِ )

هُوَ البَحرُ أَنتِ
أُحَدِّثُهُ عَن بِلادِي التي أَثخَنَتهَا الجِرَاحَاتُ طَعنَا
و عَربَدَ فِيهَا لُصُوصُ البُنُوكِ
وظلم المُلُوكِ
و ضَاقَ بِهَا النِّيلُ ذَرعاً فَأَلقَى بِأَشرِعَةِ الصَّمتِ
في البَحرِ حُزنَا
فَمَا كَفكَفَ الفَجرُ أَدمُعَهُ الجَارِيَهْ
ومن معاناته في غربته بعيدا عن بحره المعشوق ؛ يعرج على قضية بلاده التي أجبرته على البعاد ، فيحدث البحر عن النكبات والجراحات التي طعنت بلاده بما عاث فيها من الفساد والانهيار الاقتصادي وخواء البنوك بأيدى حفنة من الأشرار الذين سرقوا عذابات الشعب ، وسايرهم جور الحكام ،واستنكرها النيل وضاقَ بالأَمر ذَرْعُه وذِراعُه أَي ضعُقت طاقتُه ولم يجد من المكروه فيه مَخْلَصاً ولم يُطِقه ولم يَقْو عليه، وأَصل الذرْع إِنما هو بَسْط اليد فكأَنك تريد مَدَدْت يدي إِليه فلم تَنَلْه؛
قال حميد بن ثور يصف ذئباً:
وإِن باتَ وَحْشاً لَيْلةً لم يَضِقْ بها= ذِراعاً، ولم يُصْبحْ لها وهو خاشِعُ
فلفه صمت الحزن والألم ( تشبيه الصمت بالأشرعة ) والاستعارة في تصوير النيل يلقي بمياهه في البحر حزنا ، فكأن ماأصاب مياهه هو الحزن بعينه . وبكي على مايرى فجر الأمل بدمعه الجاري



هُوَ البَحر أنت ُ
أُرَاوِدُهُ .. مَا تَبَقَّى مِن العُمرِ .. عَن نَفسِهِ
فيحمله المَدُّ نَحوِي
و يُبعِدُهُ الجَزرُ عَنِّي
يُعَاتِبُنِي نَورَسُ القَلبِ إِن غِبتُ عَنكِ
و إِن غِبتِ عَنِّي
فَيَزجُرُهُ نِسرُ صَدِّكِ يَا طِفلَتِي القَاسيَِهْ
وهو في شد وجذب بين مدِّ وجزر ، مع بحره يتقاربان ويبتعدان ، ويلوم طائر القلب عاشق البحار ذلك النورس الوسيط افتراقهما أو ابتعادهما عن بعضهما البعض ، وكلما اقترب منك لترضيتك عن غيابي يزجره طائر الصد والفراق في لومك لي على غربتي القاسية .
الاستعارة في ( أراوده ) راوده أَي أَراده على أَن يفعل كذا،وفي حديث أَبي هريرة: حيث يُراوِدُ عمَّه أَبا طالب على الإِسلام أَي يُراجعه ويُرادُّه مع البحر , والتشبيه في القلب نورس ، والصد نسر .
هُوَ البَحرُ أَنتِ
فَإِن جَفَّ بَحرُكِ ،
كُلُّ المُحِيطَاتِ بَعدَكِ،
كُلُّ الفَضَاءَاتِ بَعدَكِ ،
لا تَحتَوِينِي
فَكُونِي
و كُونِي
و كوني
ويختتم شاعرنا الرقيق الدكتور جمال مرسي قصيدته بقوله :
بَحْرِيَ أنتِ معرفا بضمير الشأن وأداة التعريف التي التزم في خطابه معها محاور النص.، ( هو البحر أنت ) أشك أن يغيض حبك أو يجف اتساع قلبك عن حبي ،( استخدام إنْ ) ساعتها أفقد الحياة التي تحتويني ولو كنت في محيطات العالم وفضاءاته الواسعة ، فأرجوك أن تكوني لي شط البقاء والحياة وكل شيء في وجودي . كوني وكوني وكوني .

وهذه قصيدة عن ( البحر ) للشاعر نوري الوائلي ، تنتظر التحليل:
البحر
يا قارئ الشعر هل طابت لك الدارُ = واشتدّ عزمك واسْترضاك دينارُ
يا قارئ الشعر كم أعطتك مقتضبا = هذي الحياة وكم عزّتك أقدارُ
هل دار ليلك والآمالُ موصلة = أم أن حلمك عند الفجر أخبارُ
هل عشت دهرك والأيّام آمنة = أم أن دهرك مثل البحر أطوارُ
فالبحرُ يوما كأن الطير ساكنه = والريح منه الى الربان مضمارُ
جنّدت ركبك والأحلام مشرعة = والوهمُ أنساك أن البحر غدّارُ
تدنو من الجرف بالأسماك ممتلئا =جمعك عند الجرف إعصارُ
هذي هي الحال إن ساقتك في جهل = سوءُ النوازع أو يحدوك أشرارُ
نلهو وتجري بنا الأيّام مسرعة = مثل الضياء كأنّ العمر مشوارُ
كم ضاع منّا خليل أو ذوي رحم = حتّى كأنّ جموع الأهل أنفارُ
صرنا كمن هجرالأوطان معتذرا = فالأهلُ ماضون والأصحاب زوّارُ
مثل القطار ركبنا من ولادتنا = فيه المحطّـّات للركاب أدوار
تعطى البطاقات لا ندري مقاصدها = والركب يسري كأنّ القصد أمتارُ
عند المحطات ترسينا مصائرنا = ونترك الركب والآمال أسحارُ
مثل الخيال فإن الموت يتبعنا = حتى علانا , فشدّ النعشَ مسمارُ
يأتي إلينا كأن النوم غالبنا = أو لم نر الموت للأحباب يختارُ
نجري من الموت والآمال تجرفنا = حتّى صحونا وزهو النفس ينهارُ
نعدو من الموت أميالا فنحسبه = قد غاب عنا وبعد الموت أشبارُ
ما لي أرى النفس قد هامت بزائلة = وانسابَ فيها إلى اللّذات إصرارُ
الوقت أصبح أموالا فما ملئت = منها العيون , كأن المال أنوارُ
الناس تلهث والدينار مطلبها = وهل تُشافي ثرى البيداءِ أمطارُ
هل أشبع الدهر نفسا أو شفى ضمأ = وهل أضاءت سرابَ البيد أزهارُ
هذي هي الحال لا تفرح بزائلة = فما استدامت لأهل الأرض أعمارُ
هذي الحياة فلا تيأس لنائبة = إن النوائب للألباب إنذارُ
ما لي إذا ملئت بالمال أوديتي = فانتابني سقم وانتابها نارُ
حسبي الفُتاة وخيط الصوف يسترني = والسّعْف سقفي وطول الدار أشبار
ما يشبع النفس والأطماع سُفْرتها = إلا التراب , وتعلو الجسم أحجارُ
ما يذكر الموت إلا مؤمن فطن = قد ساقه العقل واستقرأه أبصار
الناس موتى وهم في حالها هرج = والصالحون بها أحياءُ أبرارُ
ما فاز فيها شقي أو أخو جهل = بل فاز فيها إلى الجنّات أخيار
تحت هذا الرابط :

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأوامر الإلهية في الآيات القرآنية

البلاغة والمجاز

الكلام ، والقول والحديث ... ( فروق لغوية )