مناظرة أدبية بين شاعر ولغوي



قال أبو علي الحاتمي :(كان أبو الطيب عند وروده مدينة السلام التحف رداء الكبر َ  .....وصعَّر خده وخُيِّل إليه أن العلم مقصور عليه ، وأن الشعر بحر لم يغترف نمير مائه غيره ..... حتى إذا تخيل أنه القريع الذي لا يقارع وساء المُعِزُّ الدولة ألا يكون في مملكته أحد يماثله في صناعته ويساويه في منزلته ، نهضتُ حينئذ متتبعا عواره ( عيوبه ) ومتعقبا آثاره ، ... ومقلما أظفاره .... وفي موقف من هذه المنازلات رأى أن يثني رأسه إليَّ  فوالله ما زادني على أن قال :
_ أي شيء أخبرك ؟
قلت : أنا بخير إني لأسمع جعجعة ولا أرى طحنا !
فامتقع لونه وسقط في يده ، وجعل يلين في الاعتذار فقلت : ياهذا إن جاءك رجل شريف في نسبه تجاهلت نسبه ، أو عظيم في أدبه صغرت أدبه ، فهل العز تراث لك دون غيرك ؟ كلا والله إن عندي أشياء تختلج في صدري من شعرك أحب أن أراجعك فيها .
قال المتنبي : وما هي ؟!
قلت : خبرني عن قولك 
فإن كان بعض الناس سيفا لدولة = ففي الناس بوقات لها وطبول
أهكذا تمدح الملوك؟
وعن قولك :
ولا منْ في جنازتها تجار = يكون وداعهم نفض النعال 
أهكذا تؤبن أخوات الملوك ، والله لو كان هذا في أدنى عبيدها لكان قبيحا .
وفي نسيبك بالمحبوبة قلت :
خف الله واستر ذا الجمال ببرقع = فإن لحت حاضت في الخدور العواتق
وقلت في هجائك :
وإذا أشار محدثا فكأنه = قردٌ يقهقه أو عجوز تلطم
وقولك :
وضاقت الأرض حتى ظن هاربهم = إذا رأى غير شيء ظنه رجلا 
أفتعلم مرئيا يتناوله النظر لا يقع عليه اسم شيء ؟! 
فشرع أبو الطيب يرد بذكر نماذج من أشعاره الجيدة قائلا :
أين أنت من قولي كذا وكذا ؟
فجعلت أذكر له سرقاته من أبي تمام وإفسادها  نحو :
همة تنطح الثريا وجد = ألف للحضيض فهو حضيض 
  قال : وبأي شيء أفسدته ؟
رددت عليه حين قلت :
ينطح السماء بروقيه والروقان القرنان 
قال إنما هي استعارة ! قلت : أجل إنما هي استعارة خبيثة ، قال : نعم
ثم سألته فقلت :
ما الفرق في كلام العرب بين ؛ التقديس والقُدَّاس والقَداس والقادس ؟
قال : التقديس التطهير في كلام العرب ، ولذلك سمي القُدْسُ قدسا لأنه يشتمل على الذي به الطهور ، وكل هذه الأحرف تؤول إليه
فقلت له : ما أحسبك أنعمت النظر في شيء من علوم العرب ، ولو تقدمت منك مطالعة لها لما استجزت أن تجمع بين معاني هذه الكلمات مع تباينها ؛ وذلك لأن القُدَّاس بتشديد الدال حجر يلقى في البئر ليعلم به غزارة مائها من قلته ؛ حكى ذلك ابن الأعرابي ، والقداس بضم القاف وفتح الدال : الجمان أي الفضة ؛ حكى ذلك الخليل واستشهد بقوله ( كنظم قداس سلكه متقطع )
والقادس : الشفينة 
فما علوته بالكلام قال : ياهذا مسلَّمةٌ إليك اللغة .
=============================
التعليق :

المناظرة في الأدب أخص من المجادلة والمخاطبة والمحاورة لأنها تجمع بين كونها نزاعية في حال مواجهة بين طرفين وجها لوجه ، ولها اشتراك مع المجادلة في مقصد الإقناع لكن المجادلة لاتشترط المواجهة الخطابية مع تدعيم الرأي بالحجج والبراهين وهو ما يسمى بدعامات الإقناع 
ومناظرة الموضوع تحقق فيها شرط الخطاب التواجهي بين الحاتمي والمتنبي في ( مدينة السلام ) وفي حضور مجموعة من الأدباء كما كان يحدث في سوق عكاظ في الأدب العربي القديم
من أجمل النقاشات الأدبية بين النقاد والأدباء ما كنا نقرأه في صفحات الجرائد قديما في مناظرات راقية كما يدور بين الدكتور طه حين وأ.عباس محمود العقاد
كانت تثري الثقافة لدي القاريء والمتعلم ، وهي تعيد سيرة المناظرات التي يمتليء بها تراثنا العربي
ومناظرة الحاتمي والمتنبي التي تعرضنا لجانب منها ، واضعين أمام الأدباء والنقاد اليوم مثالا للحوار الأدبي المفيد  
وبعد أن أشرنا   لجانب من المناظرة
 نعرض نبذة عن شخصية الحاتمي :
أنه عالم لغوي أخذ عن ابن دريد ، وكان حسن التصرف في الشعر يجمع بين البلاغة والبراعة في نظم الشعر والنثر فهو كاتب وشاعر ذكره ياقوت الحموي في كتابه ( حلية المحاضرة في صناعة الشعر )وكتاب ( المجاز في الشعر ) وتوفي الحاتمي عام 388 هـ
أما ما يتعلق بالشاعر المعروف (أبوالطيب المتنبي ):
فهو أحمد بن الحسين [ن الحسن بن عبد الصمد من شعراء القرن الرابع الهجري وهو صاحب الديوان المشهور والذي قال فيه :
أنام ملْ جفوني عن شواردها = ويسهر الخلق جراها ويختصموا
وعاش في دار الخلافة في بغداد وتنقل بين حلب والموصل والحجاز مما جعل لرحلاته وأسفاره آثارا واضحة في تعدد تجاربه الشعرية وتنوعها ولد عام 303 وتوفي عام 354هجرية 
وهو القائل في تفسير بيته الشهير :
( عليَّ أن أقول ، وعليكم أن تتأولوا ) وروى شعره كبار الرواة واللغويين والشعراء .
ومن المعروف عن المتنبي أنه ادعى النبوة ، وقتل بسبب ذلك 
والواقع أن الإبداع الأدبي وتأليف الشعر لايرقى بأصحابه إلى التعالى على الناس  بأدبهم ، مهما وصلوا في بلاغتهم الأدبية إلى درجة 
من التقدم والعلم ، فلقد رأينا من المناظرة أن الشاعر قليل المعرفة باللغة ومعاني مفرداتها ، لأنه لم يدرس علوم اللغة العربية المختلفة
ولم يطلع على ما قلته المعاجم العربية عن الألفاظ المتشابة الحروف المختلفة الدلالات كاللغوي المختصص في ذلك
ورأينا أن الرد على المناظر والمحاور الذي يورد أدلة القصور في الإنتاج لايكون بذكر محاسن الإبداع  دون أن يعترف  بأدلة المناظر الخصم المعتمدة على البراهين والحجج ، وإنما تكون بطلب معرفة الصواب وتقويم  شعره أو كتابته عليه 
وهناك أيضا شكٌ في نص المحاورة التناظرية ونقلها لأن الحاتمي كان له النصيب الأوفر من التحوير والتغيير والتسجيل ليثبت تفوقه على المتنبي بين مريديه في مجلسه 
وقد يساند الشاعر لشهرته وذيوع صيت شعره في العصر العباسي الكثيرون فيميلون إليه ، مستندين إلى ضرب الحاتمي عرضا بجميل شعر المتنبي الكثير مكتفيا بتتبع سقطاته وسرقاته معاني شعراء آخرين كأبي تمام ، وغيره وربما يكون ذلك منطقيا ومقبولا 
ولعل في أسلوب المحاور الحاتمي ما يرجح لغة التهكم التي تزيد عن كبرياء الشاعر المتنبي حين قال له : ياهذا استخفافا به وبدايته بالهجوم العنيف رغم اعتذار الشاعر له .
ونخلص من ذلك أن المناظرة مجادلة بالضرورة ، فكل مناظرة مجادلة وليست كل مجادلة مناظرة مع اشتراكهما في القصد واتخاذ نمط الخطاب لإقامة الحجة على الخصم 
والجدل المحمود ما يقصد به الحق باستعمال الصدق في الخطاب 
أما جدل المغالبة وطلب الرياء والسمعة فمذموم  لقصد غير الحق
ولذلك فقد انحرفت هذه المناظرة في كثير من مواضعها عن طبيعة القصد الأدبي بالتعريض المباشر والتلميح بالاستهزاء بعيدا عن حفظ ماء الوجه ، وكان سؤال الحاتمي ردا على قول المتنبي بعدوردود اسم أبي تمام في المناظرة بينهما ( قد أكثرت من أبي تمام ، لاقدس الله أبا تمام وذويه )
وكثيرا ما كانت تدور بين حوارات  طه حسين والعقاد في القضايا الأدبية تأثر بمثل تلك المقاصد لإبراز الغلبة والتفوق على الآخر
لكننا كنا نقرأ أدبا يثري معرفتنا الثقافية ويوضح لنا مدارس إبداعية مختلفة في الأدب العربي وفن الحوار الصحفي .
ونحن بحاجة إلى عودة تلك المناظرات بعيدا عن المقاصد السيئة التي تهبط بالأدب ولا ترقى به ، وبخاصة في عصور التقنيات 
الحديثة والإبداع على مواقع الشبكة العنكبية .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأوامر الإلهية في الآيات القرآنية

البلاغة والمجاز

الكلام ، والقول والحديث ... ( فروق لغوية )