نوادر مفيدة من ثقافات عديدة ( الحلقة الخامسة )
نوادر فنية ثقافية عطرية الرائحة والجمال والإيمان والاعتراف بالنعم الإلهية .................
فِيمَ العَجلة؟ منقولة من كتاب ( هل أنت حيٌّ؟!!
للكاتب ( كونستانس فوستر ) ........................................................
اشترينا ستمائة فدان ، وكان ذلك في أول عهدنا باقتناء المزارع ، فأردنا في بادئي الأمر أن نحمل معنا إليها ما في حياة المدينة من عجلة وسرعة واندفاع ، ولكن المستأجر ( بن فلان ) كفكف من غلوائنا يوم سألناه : ( هل فرغت من حرث حقل الذُّرة ؟) فمال ببصره إلى الشمس الغاربة وقال بهدوء : لا..، فالأرض ستظلُّ باقية في مكانها غدا .!! جعلتني هذه اللمحة من حكمته الساذجة أفكر في قيم الحياة الباقية ــ تلك الأشياء التي ستظل باقية في مكانها غدا ؛ إن أكثرنا يغلو في طلب لذائذ الحياة الفانية غلوا شديدا حتى ما يكاد وقته يتسع للاستمتاع بلذائذها الخالدة ... فإن أحدنا يدخل مخزن التجارة عجلان لتُقْضَى حاجته ، أو نتزاحم بالمناكب على المقاعد في السيارات ، أو نتنافس على التشَبُّهِ بجيراننا في حياتهم ، ونعيش العمرَ كلَّهُ وحقائق الحياة الخالدة ملقاة تحت أقدامنا فنمر بها غافلين لا نلتفت إليها ولا نعرف لها قدرا .......أنَّ هَدْأَةَ الليل ، وتوقد النجوم ، وتضاحك الأطفال ، وابتسامة الصديق ــ هذه كلها أشياء سرمدية خالدة ، وكذلك يكون حُبُّ الرجل امرأته ، وحب الأبِ ولدهُ ، وحبُّ الأخِ أخته ، وقد يشتعلُ الرأسُ شيبا ولكن آصِرَةَ الرَّحمِ وعاطفة القربى تجعلنا نرى من نحب جميلا لايبلى جماله ، وهذا هو الحصنُ المنيعُ الذي يرد عنا سهام الزمن الفاتكة .....وأكثر ما نحن فيه من العجلة مردود إلى رأي فاسد شاع بيننا في معنى الزمن ، وقد ألِفْنا منذ نشأتنا أن نسمع هذه الكلمة ( الزمنُ يمضي ) والحقُّ أنه لا يمضي بل الزمن باق ونحن الذين نمضي فيه ونعبره ، وما هذه الساعات إلا مخترعات ابتكرها الإنسان بحمقه ليقسم الزمن أقساما صغيرة ، والزمن بدونها باق في مكانه كما هو : الأمس ، واليوم ، والغد ........
وإذا عشنا في القرية كنا أقرب إلى بيئة الفطرة الأولى ، ولا نلبث إلا قليلا حتى ندرك أن وقتنا لا يتسع للعجلة ... فإذا وَلَجْنَا مسلكا من مسالك الغاب مسرعين فلعنا نتخطى أكمام ذلك الزهر الأبيض الجميل على الزمن والذي وضع بين الملابس ظل شذاهُ العَطِر يفوح منه فيعبق المكان ، وإذا أبينا إلا العجلة ، كان من السهل أن نغفل عن تلك الشجرة الطويلة الجرداء الميتة في قلب الغابة ، والتي صارت للطيور سكنا اتخذت فيه أوكارها ......
وفي المخزن العام حيث تشتري حاجاتك كلها ؛ من الجبن إلى الأحذية ، ترى الناس قد وقفوا يتجاذبون أطراف الحديث تزجية للوقت حتى ينقضي النهار ، فيسأل بعضهم بعضا عن سُعَالِهِ كيف أصبح؟! وعن دجاجه هل باض؟ فلديك دائما فسحة من وقت للتودد والمجاملة ، وهذه هي قيم الحياة الخالدة السرمدية ، وعسى أن تكون هذه كلها تجربة لحياة الخلود في الآخرة ، ولا بقاء في الحياة الدَّنيا لسوى ثلاثة : ( الإيمان ــ والأمل ــ والحُبّ ) وأعظمها الحب ... البقاء ! يالها من كلمة مُحَببة في عالم الأحداث المتقلبة والوجوه المتغيرة ....
أجل يا ( بن فلان ) في وسعِكَ الآنَ أن تنامَ هادئا ، فإذا أصبح الصباح فالأرضُ باقية في مكانها ساكنة كما كانت كما يشاء لها الله تنتظرك حتى تأتي فتتمَّ ما بدأتَ من حرثها ....أنه فن جمال الحياة بالإيمان والأمل والحب ....
تعليقات