نشأة فن القصة

كان الإنسان البدائي يعيش في عالم غامض ، وكان عقله قاصرا عن إدراك كنه هذا العالم ؛ فالشمس تشرق وتغرب في روعة وعظمة ، والعواصف تثور فتهدم الأكواخ ، وتقتلع الزروع والأشجار ، والبراكين تتفجر فتقذف بالحمم ، والأنهار تفيض والبحار تهيج ،
 ووقف الإنسان تجاه مظاهر الطبيعة والكون وقفة الرعب والحيرة يتأملها ويحاول أن يتفهمها ،
 ثم اهتدى أخيرا إلى حل اطمأن إليه إذ أضفت تلك الظواهر  على عالم الخيال روحا كروحه ، وتخيله يعيش كما يعيش ويأكل ويشرب وينام مثله ؛ فكان يرى في الصخرة المنحدرة من قمة الجبل آدميا مثله يناصبه العِداء ، وكان يظن الريح روحا جهنمية غير منظورة قادرة على تنكل به وبزرعه وحيوانه ، وكان يرى في منامه أحلاما غريبة تمثل أشخاصا ماتوا فتوهمهم أحياء في عالم آخر ، وخشي من كان منهم قويا مستبدا ، فقدم له القرابين ، وذبح له العبيد تزلفا إليه وطلبا لرضاه ،
 وعلى هذه الشاكلة جعل خيال الإنسان الأول يفترض الفروض ويفسر مشكلات الحياة ، فكان هذا العمل  أول خطوة في إنشاء
الأساطير .
وما الأسطورة سوى قصة خرافية صاغها الإنسان البدائي كما أوحى بها خياله الضعيف ، ثم تطورت تلك الأساطير شيئا فشيئا فعالجت سير الأبطال ، ووقائع الحروب ولكن جو الخرافة ظل يسيطر عليها ، وبدأ الناس يسمعون قصص ( الغول ) و ( صاحب اللحية الزرقاء ) وما شابههما ،
وليس ذلك الغول إلا رمزا للحيوان المخيف الذي ظل يفترس الإنسان ويرعبه زمنا طويلا ،
 وما صاحب اللحية الزرقاء الذي كان يسفك الدماء ويشربها إلا رمزا للمستبدين من الأمراء الإقطاعيين الذين كانوا يسومون مواليهم ألوان العذاب
ولما كانت الحروب أكبر عامل من عوامل نوازع البقاء ، في بقاء الأقوى والأصلح جاءت القصص الأولى مفعمة بالفظائع والأهوال ،
 وإن  كانت قد وجدت بجانبها قصص تدعو إلى المحبة والسلام أنشأها نفر من الصالحين الرحماء 
ولا ننسى أن اتصال الناس بعضهم ببعض في ذلك العهد البعيد كان ضعيفا ، وكانت وسائل التسلية محدودة ، فنشأت بحكم الضرورة طائفة من الناس حاولت أن تسد فراغ الجماعة منهم بأن تقدم لعامة الشعب وأمرائه ما يرغبون سماعه من حكايات وأخبار تصاغ شعرا
وتنشد على آلات موسيقية ، وتلقى مع تمثيلٍ لحوادثها وهذه الطائفة هم الشعراء الرُّحَل الذين كان منهم الشاعر والقصصي والملحن والمغني والممثل ،
 والحقيقة أن غرض هؤلاء الشعراء كان إرضاء السامعين ، ولهذا كان الشاعر في قصر الأمير يقص وقائع الأمراء وما يتصل بالبطولة والكرم والجاه ، فإذا كان في حلقة شعبية قصَّ فضائح الأمراء وسخر بهم 
ولقد عرفنا في مصر والسودان وغيرهما من أقاليم الوطن العربي جماعة من الشعراء كما كانوا يسمون ؛
 يقصون وقائع ( إبي زيد الهلالي ، والزناتي خليفة ) على نغمات الربابة في القرى والمقاهي في المدن ، ولا سيما في حي الحسين والسيدة زينب 
وكان الفنان الروائي يأخذ بعض الأغاني من أفواه الحفاظ ويزيد عليها ويحذف منها وينشيء على غرارها ، وبتوالي الحقب والأزمان 
تجمعت هذه الأغاني التراثية إلى أن جاء فنان عبقري فنظمها نظما آخر في ملحمة تَغَنَّى فيها بتاريخ أمته وروى أحداثها الرائعة ، وتحدث عن أبطالها ؛ وهنا ظهرت الملاحم الشهيرة مثل ( الإلياذة والأوديسا ) لهوميروس ، و ( الإنيادة ) لفرجين شاعر الرومان ، و ( المهابهاراته) عند الهنود ، و ( الشاهنامه ) عند الفرس .............إلخ
وترجع قلة القصص النثرية الكبرى وضعفها عند العرب القدماء في الأدب العربي لأن حياتهم لم تكن تلائم نشأة الأساطير فقد كان العربي يعيش عيشة بدوية في بيت من الشَعْرِ  سوته ناقته أو نعجته أو عنزته ، وهو في ترحل دائم وراء الماء والمرعى قانع بما يتيسر له من أسباب العيش ، يمد بصره حوله فيرى الأرض فسيحة والرمال منبسطة والأفق واضحا والسماء صافية ضاحية فلا كهوف ولا مغارات ولا جبال ولا غابات ولا غيوم متلبدة ،
ومن هنا جاءت أفكاره واضحة وكان عقله الباطن غير معقد وكان خياله مكشوفا ؛ ومعنى ذلك أنه يختلف عن سكان البلاد الجبلية المملوءة بالغابات المخيفة والكهوف المرعبة المرهوبة والجوارح والوحوش الكاسرة العملاقة
ومما ساعد على قلة الأساطير عند العرب أن ديانتهم الأولى قامت على وثنية سطحية ؛ فليست كديانة الهنود أو اليونان قائمة على فلسفة عميقة وآلهة جبارة  قاهرة ، فلما أسلم العرب وامتزجوا بالأمم ونقلوا كثيرا من علومها وآدابها لم يترجموا ما يتصل بملاحمها وقصصها لأنهم وجدوها زاخرة بالآلهة وأنصاف الآلهة والصراع الدائم بينها ، وبين البشر وهذا كله يتنافى مع عقيدة التوحيد التي عرفوها
وليس معنى هذا أن الأدب العربي كان خاليا من القصص  فإن فيه الكثير منها ، ونستطيع أن نقسمها إلى قسمين :
1- بعضها عربي خالص وكان منه الغرامي نحو ( قصة عروة وعفراء ) و ( مجنون ليلى ) و ( جميل بثينة ) 
ومن هذا القسم أيضا الحربي البطولي مثل ( قصة عنترة وعبلة ) و ( قصة الزير سالم ) و ( الأميرة ذات الهمة ) و ( سيف بن زي يزن )
ومن هذا القسم أيضا القصص الفلسفي ؛ مثل ( قصة حي بن يقظان ) لابن طفيل ، و ( الصادح والباغم ) لابن الهبارية ، و ( التوابع والزوابع) لابن شهيد ، ومن هذا القسم كذلك القصص اللغوي ؛ نحو ( المقامات ) ومثل ( رسالة الغفران ) للمعري 
2- والقسم الثاني : فهو القصص المنقولة : التي  أضاف العرب إليها  مثل ( كليلة ودمنة ) وغيرها
ولقد يتراءى لمن يقرأ بعض الكتب الأدبية مثل ( مجمع الأمثال للميداني ) و ( الأغاني للأصبهاني ) و ( المحاسن والمساويء للبيهقي ) أن في هذه الكتب قصص كثيرة متصلة بالأمثال ومتصلة بأيام العرب ،
 ولكن في الحقيقة إن معظمها ليست قصصا فنية مكتملة العناصر وإنما هي أخبار وأحاديث تناقلها الرواة أو ألفها أصحابها ، وليس فيها من الخيال القصصي المنطلق كما في القصص الحديثة
فكانت أقرب إلى أن تسمى حكاية  بدلا من إطلاق اسم قصة عليها 
ولعل أول عمل يصح أن نسميه قصة خالصة فيها الابتكار والخيال هو ما عرف بالمقامات ، وإن كنا نلاحظ أن الهدف الأول لها لم يكن الإبداع في الحوادث ولم يكن حل المشكلات وتصوير النفسيات بل كان هدفها الأول هو الافتنان في العبارة اللغوية وإظهار المقدرة 
على الإحاطة بمفردات اللغة العربية وإبراز البراعة في الألغاز النحوية والفقهية ، والألاعيب اللغوية وما شاكل ذلك 
وأما قصص الحرب والبطولة والزناتي خليفة وأمثالها فكانت أكثر من المقامة نصيبا من الخيال والابتكار ، ولا ينقصها إلا بعض الإصلاح  والتهذيب لتظهر كفن رائع من فنون القصة 
وهكذا كانت نشأة القصة في الأدب .

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأوامر الإلهية في الآيات القرآنية

البلاغة والمجاز

الكلام ، والقول والحديث ... ( فروق لغوية )