مقاييس نقد الأسلوب في البلاغة عند النقاد

ما تركَ النقَّادُ للأدباء والكتاب مجالا أنشأوا فيه إنتاجاهم الشعري إلا تتبعوه بالتحليل والتوضيح والبيان لجودة أسلوبه أو رداءتها ؛ وذلك عن خبرة المران والممارسة للتجربة الشعرية حتى وصلوا فيها لدرجة من الإتقان والمهارة كأدباء وكتاب سبقوهم أو عاشوا في عصورهم ، دون أن يمسوا شخصية الكاتب والأديب وإنما قصروا نقدهم على النص المطروح بعناية وإرشاد لجمالياته الأدبية قبل أن يتعرضوا لما فيه من هفوات قد تقلل من قيمته ومن الممكن أن تتخذ في المرا الأخرى عند  تجنبها والعمل بالأفضل لتزيين أسلوبهم ومعانيها فترقى بهم إلى فريق القدوة المطلوب من غيرهم الاقتداء بهم .

ونبدأ بمقاييس نقد ودراسة ( المفردات ) في الأسلوب ؛1-  بمقياس أطلق عليه النقاد ( مقياس الدقة ): وضروبا لذلك بالأمثلة النالية :

قال الشاعر : باللهِ رَبَّكَ إنْ دَخَلْتَ  فقلْ لها *** هذا ابن هِرْمَةَ  قائما بالباب .... والأدقُّ من ( قائما ) أن يقول ( واقفًا ) 

وقال آخر : لَمَّا تّذَكَّرْت بالدَّيريْنِ أَرَّقَني *** صَوْتُ الدجاجِ ، وَقَرْعُ النواقيسِ... الأرق أول الليل ؛ وصوت الدجاج آخره ، وقرع النواقيس عند الفجر ويقتضي هنا مراعاة التقديم والتاأخير في المُسبب عن السبب ، فأصوات الدجاج الأفضل أن يتأخر .

ومن غريب التقديم والتأحير والغموض قول أحدهم : وما مثلُهُ في النَّاسِ إلا مملك*** أبو أمهِ حَيٌّ أبوهُ يُقَـــارِبُه

2- مقياس الإيحاءِ : انتقد القائل في نصه بالبدء بكلمة ( بطن ) في قوله : وَلِبَطْنِ عائشةَ التي *** فَضُلَتْ أَرُومَ نسائها ؛ وهو إيحاء لفظي لا يوحي بالمدح .    وكذلك قول الشاعر في مدح الحجاج : إذا وَرَدَ الحَجَّاجُ أرْضًا مَرِيضَةً *** تَتَبَّعَ أَقْصَى دارها فَشَفاها

ومنه في عدم الإيحاء الجيد للفظ قول الشاعر : فقُلْتُ لِقَومٍ في الكَنِيفِ تَرَوَّحُوا *** عَشِيَّةَ بِتْنَنا بينَ ماوانَ رُزَّحُ

وكذلك في قول الآخر : وَكَمْ مِنْ غَائطٍ مِنْ دُونِ سَلمى *** قَلِيل الأُنْسِ ليس بهِ كَتِيعُ 

وقول الآخر : وَأَمْوَاهٌ تَصِلُّ بها حَصَاهَا *** صليلَ الحَليِ في أَيْدِي الغَواني . فمن جمال الإيحاء تصوير الكلمة بجرس حروفها .

3- مقياس السهُولة والوضوح : فقد عيب في الشعر القديم عند ( امرؤ القيس )

 غَدائِرُها مُستَشزِراتٌ إِلى العُلا تَضِلُّ العِقاصَ في مُثَن ...

الغدائر: الذوائب، واحدتها غديرة، ومستشزرات: مرفوعات وأصل الشزز الفتل على غير جهة لكثرتها، وقوله (إلى العلاإلى ما فوقها، والعقاص: جمع عقيصة، وهو: ما جمع من المعزى ،قال ابن الأَثير: العَقِيصةُ الشعرُ المَعْقوص وهو نحوٌ من المَضْفور، وأَصل العَقْص اللّيُّ وإِدخالُ أَطراف الشعر في أُصوله، قال: وهكذا جاء في رواية، والمشهور عَقيقَته لأَنه لم يكن يَعْقِصُ شعرَه


4- مقياس الأُلْفَة : عيب استخدام اللفظ غير المألوف مع وجود المألوف منه كقول الشاعر: وَمَا أَرْضَى لِمُقْلَتِهِ بِحُلْمٍ *** إذا انْتَبَهَتْ تَوَهَّمَهُ ابْتِشَاكـًا . والابتشاك: الكذب

كما عيب قول : يَظَلُّ بِمُومَاةٍ وَيُمْسِي بغَيْرِهَا*** جحيشًا وَيَعْرَوْرِي ظُهور المسالك  .وموماة غريب متوحش ، وجحيشا كذلك . ومثله : مُبَاركُ الاسمِ أَغَرّ اللَّقَبِ *** كريمُ الجَرشِ شرِيفَ النَّسَب . لغربة لفظ ( الجرش في الأسلوب )الجَرْش: حَكّ الشيء الخَشِنِ بمثله ودلْكُه كما تجرُِش الأَفعى أَنيابها إِذا احْتَكَّت

5- مقياس الطُّرْفََةِ : صَلِيني وهذا الحُسْنُ باقٍ فربما *** يُعْزَلُ بيتُ الحُسْنِ مِنْهُ وَيُكْنَسُ
 وعيب : وَقَوَامِي مِثْلُ القَنَاةِ من الخَّطِّ *** وَخَدِّي مِنْ لِحْيَتي مَكْنُوسُ ....لابن المعتز  ، وكذلك عيب :
وَ أَصْبَحَ مُبْيَضَّ الضَّريبِ كَأَنَّهُ *** على سَرَوَاتِ النَّبْتِ قًُطْنٌ مُنَدَّفُ .

6- مقياس الشَّاعِريَّة : قال الشاعر : وتقول بَوْزَعُ قدْ دَبَبْتَ على العَصا *** هَلاَّ هَزِئتَ بِغَيْرِنا يا بَوْزَعُ ... وعيب قول الآخر : حَبَّذا ليلتي بِتَلِّ بوني ** حينَ نُسْقَى شربِنَا ونُغَنِّي

7- مقياس الاستعمال : اللفظ الذي لم يُسمه به في استعمال من قبل عيب في الأسلوب نحو : تَلاَعَِبَ نِينانُ البحورِ وَرُبَّما *** رأيتَ نفوسَ القومِ من جَرْيِها تجري ؛ ومن ذلك قول الشاعر : ترافعَ العِزُّ بنا فارفنفعا**تقاعَسُ العِزُّ بنا فاقعنْسَسَا ، وفي هذا المقياس عابوا قول الشاعر : تُخَاطِم قومًا لا تلقى جوابهم ** وقد أَخَذَتْ من أنفِ لحيتِكَ اليَدُ.

8- مقياس الإفادة : مع أن النقاد ربما غفروا في النص إيراد الترادف لكن الأفضل تركه لعدم الإفادة كما في قول الشاعر : بِوُدِّي لوْ يَهْوَى العَزُولُ وَيَعْشَقُ ** فَيَعْلَمَ أَسْبَابَ الهوى كَيْفَ تَعْلَقُ .

9- مقياس التَّكريرِ : ومنه الحسن ومنه المعيب لقرب السبب من مقياس الإفادة نحو:

أَلاَ ليْتَ لُبْنَى لمْ تَكُنْ لِي خُلَّةً *** ولم تلقني لبنى ولمْ أَدْرِ ما هِيَا ... وعيب في هذا المقياس نحو : فقلتُ لهم إنَّ الأَسَى يبعثُ الأسى **دَعُونِي فهذا كُلُّهُ قَبْرُمالكِ.. وعيب/فما للنَّوَى جَزَّ النَّوى قطع النَّوى *** كذاك النوى قَطَّاعةٌ لِوِصَالِ.

10- مقياس الرِّقَّةِ : عيب ذكر القفا في الهجاء ، والقذال في المدح وما شابه مما يقلل من رقة الغرض في الأسلوب المستخدم وإن ورد في ذم وهجاء فالأفضل التلميح لا التصريح باللفظ والمرادفة القريبة . 

11- مقياس الصِّلاتِ:  كما يعاب الخروج على مقياس تعدد أحرف الصلات المبهمة للمعنى في الأسلوب نحو قول القائل : 

وَيُسْعِدُني في غَمْرَةٍ بعدَ غمرةٍ *** سُبُوحٌَ لهُ منها عليها شواهِدُ 

12- مقياس الاشتراك : وهو احتمال المعنى في اللفظ في الأسلوب مع غيرهِ نحو قول الشاعر : لو كنتُ أعلَمُ أن آخرَ عهدكم ***يومَ الرَّحِيلِ فعلا ما لمْ أفعلِ ، ومثله كذلك :

وَقُمْنا فقلنَا بعدَ أنْ أفردَ الثرى *** بِهِ ما يُقَالُ في السَّحابَةِ تُقْلِعُ .. وقول القائل :

فاذهَبْ كمَا ذهبتْ غَوادي مُزْنَةٍ **أثْنَى عليها السَّلُ وَ الأَوعَارُ.

13- مقياس الاصطلاحات : معاب عند كثير من النقاد في النص الأدبي غير التخصصي في بابه من شعر التعليم لفن النحو مثلا كما في ألفية ابن مالك فلا ضير في ذلك .

عابوا : فيا شَتَاتَ الأسماءِ والأَفْعالِ *** بعد موتِ ابن مالكِ المفضالِ ... ومن ذلك ماعيب على البحتري في قوله : وكأنها والسمعُ معقودٌ بها ** وجهُ الحبيب بدَا لعينِ جبينِ.

 

ثم ننتقل إلى مقاييس نقد الجملة في الأسلوب البلاغي :

1- مقياس النحو وضبطه  : تعارف أهل اللغة العربية على أن قواعد النحو في الكلام كالملحِ في الطعامِ لا يُستَغْنَى عنه ؛ فعابوا كل ضبط غير صحيح على نهج النحو العربي مثل قول الشاعر :فلو كان عبد الله مولى هَجَوْتُهُ **ولكنَّ عبد الله مولى مواليا ، ومنه أيضا ما عيب على القائل :

دعَضَ زمانٌ يا بن مروان لمْ يَدعْ *** منَ المالِ إلا محسِنًا أو مُجْلِفُ .. والعطف الأخير ضبطهُ النصب لأنهُ تابع لما قبله ؛ ومعنى دعض : أي لا قيمة له ففي المعجم :الدال والعين والضاد ليس بشيء.

2- مقياسُ انسياب الجمل في سهولة : عيب من ذلك قول الشاعر :

وقبر حربٍِ بمكانِ قفرٍ وليسَ قُرْبُ قبرِ حربٍ قبرُ.

3- مقياس الوضوح في الجمل : يعاب نحو :

أنَّى يكونُ أَبَا البَرَايَا آدَِمُ *** وأَبُوكَ والثَّقَلانِ أنتَ : محمدُ

ونحو : وَفَؤُكما كالربع أشجاهُ طاسِمُه *** بأن تَسْعَدَا والدمعُ أشفاهُ ساجِمُه

ونحو : فإنَّكَ كالليلِ الذي هوَ مُدْرِكي ***وإنْخِلْتُ أنَّ المُنْتَأى عنك واسِعُ

 4- مقياس القُّوةِ : نحو ما عيب على : بَكِّرَا صاحِبَيَّ قبل الهَجيرِ ** إن ذاك النجاحَ في التبكير ، ومثله : إنَّ الذي سمك السماءَ بنى لنا ** بيتًا دَعائِمهُ أعَزُّ وأَطْولُ

5- مقياس المحسنات البديعية : عيب فيها في أسلوب الجمل قول القائل :

ما مات من كرم الزمان كأنه ***يحيا لدى يحي بن عبد الله ..... ومن ذلك أيضا :

فَأَحْجَمَ لَمَّا لَمْ يَجِدْ فِيكَ مَطْمَعَا ***وَأَقْدَمَ لمل لم يجد عنكَ مَهْرَبَا  ... ومثله :

مودته تدوم لكلِّ هول *** وهل كلٌّ مودتهُ تدومُ ...............العكس والطرد

6- مقياس التلاؤم بين اللفظ والمعنى في الجمل : مما يعاب في هذا المقياس:

ما زالَ يهزي بالمكارم دائبا *** حتى ظنَنّا أنه مَحْمُومُ .... ومنه كذلك :

جادَ بالأموال حتى  ***حَسِبُوهُ الناس حُمْقًا  .....................ومنه كذلك :

يا أبا جعفرٍ جُعِلْتُ فِداكَ *** فاقَ حُسْنُ الوجوهِ حسنُ قفاكَ ... ومنه أيضا :

مغاني الشِّعْبِ طِيبًا في المغاني **بمنزلةِ الربيعِ من الزَّمانِ

7- مقياس المؤخاة بين الألفاظ في الجملة : تفوق البعض وعيب عند البعض الآخر ؛ نحو : وقد صارتْ الأَجْفَانُ قرْحًا من البُكَا ***وصارَ بُهَارًا في الخُدُودِ الشَّقَائِقُ

ومم عيب ومدح عند فئات النقاد قول الشاعر :

ألا يابن الذين فَنَوْا وماتوا ***أَمَا واللهِ ما ذَهَبُوا لِتَبْقَى 

وما لكَ فاعْلَمَنّْ فيها مَقَامٌ ** إذا اسْتَكْمَلْتَ آجالاً ورزقا 

8- مقياس سياق الجمل بين الطبيعة والتكلف والصنعة والتثقيف :

وفيه يعاب ويمدح المخالف للذوق عند المختصين بفن البلاغة في أسلوب الجمل :

مثال : ذهبتْ بمذهبهِ السَّماحةُ فَالتَوَتْ ***فيهِ الظُّنُونُ أمذهبٌُ أم مذهبُ؟!

9- مقياس وحدة النسْجِ في الجملة : ومما عابه النقاد في هذا المقياس نحو:

أَتُرَاهَا لِكَثْرَةِ العُّشَّاقِ ** تَحْسَبُ الدَّمْعَ خَلْقُهُ في المَآقي 

كيفَ ترثي التي كلَّ جَفْنٍ ** رءاها غير جفنِها غير راقِ

10- مقياس ضعف التأليف بين الإيجاز و الإطناب في الأسلوب :

والاتجاه العام تفضيل الاهتمام بالأول ( الإيجاز ) ثم ( الأسلوب البلاغي في مناسبة لكل مقامٍ مقال في الطول والإطناب أو المساواة أو الإيجاز في الجمل ..

والله تعالى أعلى وأعلم .



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأوامر الإلهية في الآيات القرآنية

البلاغة والمجاز

الكلام ، والقول والحديث ... ( فروق لغوية )