من شروط بلاغة الأسلوب في اللغة العربية
الأسلوب البليغُ في اللغة العربية هو ما قل ودَلَّ ..ولمطايقة الأسلوب في البلاغة العربية لذلك ثلاثة شروط ليكون تاما وافيا بالغرض البلاغي في اللغة العربية الفصيحة وهي :
1- مطابقة الأسلوب للموضوع الذي يُتَكَلَّمُ فيه ..
2- مطابقة الأُسْلُوبِ لِعَقْلِيَّةِ القَائِلينَ والسَّامِعينَ..
3- مطابقة الأُسْلُوبِ لِنَفْسِ المُتَكَلِّمِ أو الكاتِبِ ::
ولبيان ذلك بحسب القواعد البلاغية في اللغة العربية باختصار غير مخل بالعنوان مع ضرب الأمثلة لذلك نقول بتوفيق الله :
1- الموضوع المكتلم فيه يختلف ضَعَةً وَ رُقِيًّا ؛ والأفكار تختلف سَذَاجَةً وَتَعَقُّدًا ، وسهولة وصعوبةً ، فيجبُ أن يكون الأسلوب مُسَايِرًا لهذه الموضوعات والمعاني ، فيكون سهلا في الموضوعات والكعاني السهلة ، جَزْلا فيما يناسب الجَزالةَ من الموضوعات والمعاني ، كما أن بعض الموضوعات يناسبه الإطناب ، وبعضها يناسبه الإيجاز ، وبعضها يحتاج إلى أسلوبٍ خَطابِيٍّ ، وبعضُها يحتاجُ إلى أسلوبٍ مَنْطِقِيّ وهكذا ...والوسيلة إلى ذلك تربيةِ الذَّوْقِ الأدبِيِّ عند الكاتب ؛ حتى يُدْرِكَ أَوْفَقَ الأساليب للموضوع الذي يتكلم فيه ، وهذا الذَّوقُ جُزْءٌ منه غريزيٌّ لا دَخْلَ للإنسانِ فيهِ ، وَجُزْءٌ مُكْتَسَبٌ يَكْتَسِبُهُ بمخالطة الأدباء المُجِيدينَ وبالمطالعةِ في الكُتُبِ الأدبيةِ الرَّاقِيَةِ ، وبالمرانةِ والتدريب على الكتابة الجيدةِ فهو بهذا كله يستطيعُ أن يُدْرِكَ الألفاظَ والأَساليب التي تناسِبُ الموضوعاتِ ، ويعلم أيها تحتاجُ إلى قُوَّةٍ وأيها لا يحتاجُ وأيها يحتاج إلى فُكَاهَةٍ وأيها لا يحتاجُ ، وأيُّ الكلامِ يناسِبُ المقام ، وأيُّهُ لا يناسب ، وهذا الذَّوقُ الراقِي هو غاية ما يَصْبُو إليه الأديب الناجح المتمرس .ولنضرِب مثالا واحدًا من الأدب العربي عن تخَلِّي الكاتب أو الأديب عن الوسائل التي بيناها لتحقيق الهدف الأول من قواعد البلاغة في مطابقة الكلام في الأسلوب للموضوع المتكلم فيه :
يَرْوُونَ أَنَّهُ لَمّا فَرَغَ الخَلِيفَةُ المُعْتَصِمُ مِنْ بِنَاءِ قَصْرِهِ ، جَلَسَ فيه وَجَمَعَ النَّاسَ من أَهْلِهِ وَ أَصْحَابِهِ ، وَجَلَسَ على سَرِيرِهِ المُرَصَّعِ بالجواهرِ ، وكُلَّمَا دَخَلَ رَجُلٌ أُجْلِسَ في المكانِ اللائِقِ بِهِ فما رأى النَّاسُ أَحسَنَ من هذا اليومِ .. ثُمَّ أُذِنَ للشُعَراءِ أن يقُولوا : فقال إسْحقُ بن إبراهيمَ ؛ فكان أولُ بيتٍ في قصِيدَتِهِ تَشْبِيبًا بالديار القديمةِ ، والآثارِ البَاليَةِ على عادة الشعراء العرب في الجاهليةِ فقال :
يا دَارُ غَيَّرَكِ البِلَى فَمَحَــاكِ *** يَا لَيْتَ شِعْـرِي ما الذي أَبْــلاكِ؟!.........
فَتَطَيَّرَ الخليفَةُ ، وَتَطَيَّرَ الناسُ من قَولِهِ ، وانْقَبَضَتْ صُدُرُهُم وعَمَّهُم الأَسَفُ ؛ وسَبَبُ هذا كلِّهِ قِلَّةُ ذَوْقِ الشَّاعرِ وعدم التوفيق في الكلامِ والأسلوب الذي يناسب الموضوع .
2- أما بالنسبَةِ لمطابقةِ الأسلوب لعقْلِيَةِ القائلين والسَّامعين ، فيجب ألا يكون الأسلوبُ عاليًا جَدًّا يَصْعُبُ فَهْمُهُ ؛ بل يجبُ أن يكون في متناوَلِ عُقُولِهِم ، يسْتَطِيعُونَ أن يدرِكُوهُ في سُهُولَةٍ وَيُسْرٍ ... وخير وسيلة لمراعاةِ هذه المطابقةِ أن يكون الخطيبُ أو الكاتب أو الأديبُ على عِلْمٍِ تامٍ بِعَقْلِيَّةِ الناسِ وَطَبَائِعِهِم ، والكتابُ أو الرُّوايَةُ الجَيِّدَةُ التي تُصَادِفُ نَجَاحًا ويَسْتَحْسُنُها الجُمْهُورُ لَيْسَتْ هيَ الجيدة في أفكارِها وموضوعوها ولُغَتِهَا فَحَسْبُ ؛بلْ هِيَ التي دَرَسَ كاتِبُهَا ــ فوق ذلِكَ ــ عَقْلِيَةَ القَارِيءَ ـ وَكَتَبَ كِتَابَهُ أَو رُوايَتَهُ على النَّمَطِ الذي يفهَمُهُ وَشَعُرَ بالصُّعُوباتِ الي قَدْ يَجِدُها القاريءُ فَذَلَّلَها ويسرها والنموذج التطبيقي الذي نسوقهُ هنا : قال قائل لأبي تمام الشاعر ؛ وكان شِعْرُهُ غَامِضًا ـ وَخَيَالُه بَعِيدَ المَنَالِ : لِمَ لا تَقُولُ مَا يُفْهَمُ ؟! فقال أبو تمام : وَلِمَ لا تَفْهَمُ مَا يُقَالُ ؟! والحَقُّ مع القائلِ ، لا معَ أبي تمام ...فعلى الشاعر أولا أنْ يُرَاعِيَ عَقْلِيَّةَ جُمْهُورِ السامعينَ لا الخَاصَةَ وَحْدَهُم
3- الشرط الثالث والأخير عن مطابقة الأسلوب لنفس المُتَكَلِّمِ أو الكاتب أو الأديب .. فكثيرًا ما يَتَكَلَّفُ في كِتابَتِهِ ، ويُقَلِّدُ غَيرَ شَخْصِيَّتِهِ ، فَيَخْرُجُ كلامُهُ سَمِجًا ثَقِيلَ الظِّلِّ .. فترى بعضَ النَّاسِ يتحدثُ فَيُحْسِنُ حديثَهُ ، فَإذا كَتَبَ سَمُجَتْ كِتابتُهُ ، لأنَّهُ في الأولى طابقَ نفسَهُ ، وفي الثانيةِ تابعَ غَيرَهُ فَخَرَجَ الكلامُ من رُوحٍ غيرَ رُوحِهِ فَسَمُجَ ..
والخلاصةُ : أن تهذيبَ الذَوقِ الأدبي البلاغَيِّ حتى يُعْرَفَ به ما يناسِبُ الموضوع وما لا يناسب ، ومعرفةُ طبائعِ الناس وعقلياتهم ، ومقدرة الكاتبِ على تصوير مشاعره ، واستمدادِ كلامه من روحهِ ، وذلك كل ما يحتاجه ليكون أسلوبه مطابقا لقواعد البلاغة العربية السليمة .
والله أعلم
تعليقات