عمر مكرم في المَنْفى ( من محمد علي باشا) ( 3) / تاريخ وأحداث

 


لاننسى اليوم العاشر من شهر أكتوبر سنة 1805م حين شهد خروج خورشيد باشا مهزوما من القاهرة أمام شعب مصر الأَبِيِّ الصامد من بولاق ، وكان عمر مكرم هو زعيم ذلك الشعب العظيم المنتصر وأعلى المصريين اسما ونفوذا ...... ومن عجيب الاتفاق أن ينفي محمد على باشا التابع للسلطان العثماني بتركيا السَّيِّد عمر مكرم صديقه ومساعده في يوم الأحد الحادي عشر من أغسطس 1809 م بعد هزيمة خورشيد باشا ، وقبل نفيه عزله عن نقابة الأشراف وأقام مقامه الشيخ السادات ، وأمر بإبعاده إلى دمياط ، وليس ثمة شك في أن محمد علي باشا كان يعرف ما يجول في نفوس الزعماء الذين ساعدوه على الإيقاع بالسيد عمر ، فإنه كان خبيرا بالناس عالما بما تنطوي عليه جوانحهم وطالما خبرهم في مجالسه وسَبَرَ أغوارهم في أحاديثه وأيقن أنهم إن كانو تحركوا في أول الأمر عليه وحاولوا إثارة الناس ضِدَّهُ فإنهم إنما فعلوا ذلك دفاعا عن أموالهم وأسباب أرزاقهم ولم يكن أحد منهم يتحرك لفكرة العدالة والمصلحة إلا ذلك الرجل الأوحدُ بينهم وهو السيد عمر مكرم ، فلما تم له التخلص منه على أن الآخرين لن يكلفوه مشقة ، ولن يعاني في إسكاتهم نصبا ، فإنهم أنما يطلبون امتيازا لأنفسهم ، وهو يستطيع ن يميزهم حينا حتى تهدأ الأمور وتستقر ، فإذا ما هدأت الحال لم يتعذَّر عليه إنفاذ ما شاء فيهم غيرَ خَاشٍ منهم شيئا ، واشترك هؤلاء الزعماء في اقتسام الغنائم بعد الإيقاع بزميلهم النبيل ، وهو في قرارة نفسه يسخر منهم وهوان أقدارهم إذا قاسهم بالرجل الذي نفاه وقلبه مفعمٌ بتقديره وإجلاله . .............

وكان نفي السيد عمر مكرم بدء الخطوة الثانية التي أكملت للباشا سيره نحو حكم البلاد منفردا ، وإبعاد الشعب عن التدخل في إدارة الشئون العامة . فإنه بدأ أولا منذ عامين بِصَدِّ الشعبِ عن أن يقوم بنصيبه من الدفاع عن بلاده ، إذا  دعا الداعي ، قيام الحر المتصرف في شئون نفسه ، وها هو ذا قد أتَمَّ ما بدأ فيه منذ ذلك الحين ، بإن أبعدَ المعارض الذي كان يريد أن يجعل للشعب حقا في مناقشة مدى سلطته في فرض الأموال وصرفها ، فأصبح قابضا على السيف ةالخزانة معا ، وصار السيد المطلق في البلاد المتصرف في كلِّ شئونها في السلم والحرب ...... وقد تلقى السيد عمر مكرم أمر النفي والعزل بهدوء يشبه أن يكون فرحا وترحيبا وقال عند ذلك :( أما منصب النقابة فإني راغب عنه وزاهدٌ فيه ، وليس فيه إلا التعب ، وأما النفي فهو غاية مطلوبي لأرتاحَ من هذه الورطة .. ولكني أريد أن أكون في بلدة لا تدين لحكم محمد علي ، إذا لم لي بالذهاب إلى أسيوط / فإما أن يرسلني إلى ( الطور ) أو إلى ( ورنة ) .....

يقول الأستاذ العقاد مؤلف عبقرية عمر مكرم :

ولنا أن نفهم من هذه الكلمات ما كان يجول في نفس الرجل من الخواطر ، وما كان قد استقر في قلبه من العقيدة ، فلقد رأى أنه كان المعين الأول على قيام دولة أمل الناس فيها آمالا لا حصر لها ، وكان يرى أن الحكم الجديد سيكون حكم أهل مصر ، يحقق لهم تلك الأحلام التي ما فتئت تغشى الأذهان منذ أواخر القرن الثامن عشر ، ثم رأى أن الدولة الجديدة التي علق عليها كل تلك الآمال تقف ناظرة إلى ميدان المُخَرِّب الذي شهد مواقع انتصارها ، ولا تستطيع شيئا غير سلوك الوسائل التي اعتاد عليها شعب مصر أن يكرهها ويثور عليها ، ومرت عليه أعوام وهو يحاول الاعتذار عن الدولة التي ساعد على قيامها ، مؤملا أن يأتي يوم تتمكن فيه من الإصلاح وتستطيع بعده أن تستقر على حكم شعبي ، ترعى فيه للناس حُرُماتهم وتطمئن فيه حرياتهم ، ولكنه كان كلما أمل حلول ذلك اليوم وجده لا يزال بعيدا ، كما كان دائما . فأحس بعد حين أنه تورط وأنه لا يجد دونه سبيلا واضحا ، ولو كان السبيل الواضح أمامه هو سبيل الثورة لما تردد في الدعوة إليها وخوض غمارها وهو رجل الثورات العنيفة ، ولكنه كان يعلم علم اليقين أن الدولة الجديدة مضطرة إلى أن تلجأ إلى ما يكرهه الشعب ، لكي تتوصل إلى إقامة البناء المادي الذي لا تقوم دولة إلا عليه ، فلم يجد لنفسه منفذا يخرجه من التورط الذي هو فيه إلا بأن يضحي بنفسه ويستهدف للنفي حتى يجد لنفسه عذرا في أن يصمت ويسكن . لأنه كان في الوقت نفسه زعيما للشعب وشريكا في الحكم ومن ثم كان شعوره بالحيرة طبيعيا فلا عجب أن ارتاح لنبأِ النفي عندما حمله زملاؤه إليه .  

شعور الباشا محمد علي بعد قراره ، ووداع الشعب لعمر مكرم المنفي :  

لم ينس محمد علي سابق فضل عمر مكرم وصداقته له طوال مدة تعيينه من قبل الدولة العثمانية حاكما على شعب مصر ، فلم يضن عليه بشيءٍ مما يُخَفِّفُ عنه ألمَ الصدمة وَذُلّ النكبةِ ، فإنه ماكان يريد نفيَ الصديق ولكنه أراد إبعادَ الثَّائر ، فلما استأذنهُ السيد المحروقي في أن يكون وكيلا عنه ويقوم بالنظر في حاجات أسرته ، لم يتردد في إجابته إلى ذلك قائلا :( هو آمِنٌ من كُلِّ شيءٍ ، وأنا لم أزل أراعي خاطره ولا أفوتهُ ) ثم أرسل إلى حفيده وغَمَرَهُ بالعطفِ والتكريم ، تخفيفا عن أسرته وتعزية لهم في نكبتهم . وكانت مواساته كريمةً بالغة حتى حسِبَ الناس أنها دليل على رجوع الباشا عن عزمه في نفي صديقه وتوقعوا العدول عن إبعاد شيخهم ، ولم يفطنوا إلى أن الباشا الكبير إنما قصد أن يكوم صديقه القديم في سقطته وأن يواسي أهله في وقع الصدمة عليهم ، ولم يقصد أن يتردد في سياسته أو يتشكك في مقصده وأنما أراد أن يبعد الثائر الخطير عن طريقه الذي رسمه بعد تفكير وتدبير .

وداع مصر لعمر مكرم في بولاق بمصر ثم عودة الزعيم : 

اجتمع الناس من زعماء وعامة في الثالث عشر من أغسطس 1809م ليودعوا زميلهم وزعيمهم وكانت دموعهم تعبر عن حزنهم على فراقه وتقلب الأيام عليه ، وسارت السفينة من بولاق تحمله إلى دمياط بعد إصرار الباشا على نفيه إليها . وبعد فترة قصيرة مات الشيخ السادات نقيب الأشراف الذي سعي ليسقطها عن عمر مكرم ، فولى عليها الباشا محمد علي الشيخ الدواخلي الذي كان من فريق الساعين لإسقاط عمر مكرم منها ، وينبغي أن نعرف أن جمهور العلماء لم يرضَ عن أفعال كِبَارِهم لنفي الثائر عمر مكرم بالمكر والكذب عليه ليحصلوا على محبة الباشا ، بل قد أنكر مفتي الحنفية الحيلة ولم يرض الاشتراك فيها وكان يسمى الشيخ أحمد الطهطاوي أَبَى أن يضع اسمه على الشهادة المرسلة للخليفة العثماني اعتذارا لما فعله الباشا محمد علي في نفي الزعيم عمر مكرم لأكاذيب باطلة لمصالح شخصية لمن تقربوا بها إلى محمد علي لإثارته على عمر مكرم وأعلن المفتي أنه لن يناصر الباطل ولو كلفه ذلك تحمل البلاء ولم يكذب ظن الرجل النبيل فقد عزله الأشياخ المؤتمرون عن وظيفة الإفتاء فبادر بأن طوى الخُلَعَ التي خلعوها عليه عند تقليده الوظيفة وأرسلها إليهم في صمتٍ وكبرياء...ثم نقل عمر مكرم سنة 1812 م من دمياط إلى طنطا في أواسط شهر إبريل ، وكان في هذه المدة ممنوعا من الاختلاط بالناس وكان الحُرَّاسُ يلازمونه حيث سار فكان أشبه بالسجين ، لكنه لم يشغله ضيقه عن التفكير في الترفيه عن الناس والتخفيف من آلامهم ...... 

وكان محمد علي قد فرغ في أثناء هذه السنوات الثلاث من كثير مما كان يملأُ قلبه هَمًّا ، وخلص له الحكم بعد إيقاعه بأمراء المماليك في مذبحة القلعة سنة 1811م ، وأرسل حملة لإخضاع الوهابيين في بلاد العرب طاعة لأمر الدولة العثمانية ، وبعد أن أخذ في إصلاح مالية مصر وإدارتها وتحسين موارد ثروتها ، لم يجد بأسًا في أن يبيح لصديقه القديم من الحرية ما كان يحظره عليه ، فكان مقامه في طنطا أرفق به وأروح ، وأغلب الظن أنه لم يكن ليمتنع عن الإفراج عنه لو وجد منه ميلا إلى الخضوع لحكمه ، أو سمع منه كلمة رجاء ، ولكن السيد عمر مكرك لم يرضَ أن يطلبَ عفوًا وتكبر أن يشكو ألما وضيقا مع كِبَرِ سنه وحاجته إلى الراحة وبقي في طنطا نحو خمس سنوات أخرى ، وكانت عودته إلى القاهرة راجعة إلى مجاملة مهدت السبيل إلى إرجاعه من منفاه بغير طلب ولا رجاء ، فإن حرب الوهابيين كانت قد انجلت عن انتصار بعد انتصار بقيادة الزعيم ابراهيم باشا ابن محمد علي باشا إلى أن دخلت جنود مصر إلى الدرعية عاصمة آل السعود . ورأى عمر مكرم في ذلك الانتصار مجدا لبلاده لا ينبغي أن يفوته إظهار الفرح به ؛ فأرسل مع حفيده رسالةً إلى صديقه القديم يهنئهُ فيها على ما أصاب من توفيق ، وكأننا به قد غفر له ما كان منه من الانفراد بالحكم والتشدد في جباية الأموال لمَّا راى من توجيهه لها إلى وجوه المصلحة والمجد .... ولما بلغت تلك الرسالة محمد علي اهتز لها وطرب وأقبل على حفيد صديقه يسأله عن جَدِِّهِ وعن أحواله ، وأعاد عليه المسألةَ لعل له رغبةً يحققها له ، أجاب الحفيد بأن جده إنما أرسل رسالته مهنئا ولم يُحَمِّلْهُ بعد ذلك طلبا ولا رجاءً .....

فأرسل إليه أحد أتباعه يسأله في خُلوة عما إذا كان لجده يود تحقيقه فأجاب الحفيد بعد تمنع وتردد أنه لا يرغب شيئا إلا أن تكون أمنية قديمة أن يذهب إلى الحجاز ليقضي الفريضة ، فأسرع محمد علي بالإذن له بأن يعود إلى القاهرة ريثما يَحِلُّ موعد الحج فيتخذ له أي طريق شاء في البر أو البحر ، ثم قال : أنني لم أتركه في الغربة طول تلك المدة إلا خوفا من الفتنة ، ولم يبق الآن ما يخيفني من الفتنة فليعد إلى مقره ووطنه فأنه أبي ، وليس بيني وبينه إلا ما لا أستطيع أن أنساه من المحبة .)

ثم أرسل إليه خطابا ينم عنا كان لا يزال له في نفسه من التقدير قال في رسالته :

( إلى مُطَهَّرِ الشَّمائل سَنِيّها ، حميد الشؤون وسَمِيّها ، سلالة بيت المجد الأكرم ، والدنا السيد عمر مكرم ، دام شأنه ... أما بعد : فقد ورد الكتاب اللطيف من الجناب الشريف ، تهنئة بما أنعم الله علينا ، وفرحا بوماهب تأييده لدينا ، فكان ذلك مزيدا في السرور ، ومستديما لحمد الشكور ، ومجلبةً لثناكُم وإعلانا لِنَيلِ مُناكُم جزيتم حسن الجزاء مع كمال الوقار ونيل المنى . هذا وقد بلغنا نجلكم عن طلبكم الإذنَ في الحج إلى البيت الحرام وزيارة روضته عليه الصلاة والسلام للرغبة في ذلك ، والترجي لما هنالك وقد أذناكم في هذا المرام ، تقربا لذي الجلال والإكرام ، ورجاء لدعوتكم بتلك المشاعر العظام ، فلا تدعو الابتهال ، ولا الدعاء لنا بالقال والحال ، كما هو الظن في الطاهرين ، والمأمول من الأصفياء المقبولين ، والواصل لكم جواب منا خطابا إلى كتخدائنا ، ولكم الجلال والاحترام ، مع زيل الثناء والسلام .)        

وعاد السيد عمر مكرم إلى القاهرة في التاسع من شهر يناير سنة 1819م ، وارتجب القاهرة لتلقيه والترحيب به إذ خرج عامة الشعب إلى بولاق ليظهروا له قديم ولائهم ومحبتهم وقصده الأدباء والشعراء للتهنئة وإبداء ما يجيش في صدور الاس من العطف عليه والأنس به ، ولكنه اختار أن يعنزل في داره متحاشيا الظهور زهدا وبعد عن مواطن الظنون فلم يكن في هذا العمر ليحتمل مشقة الانتقال أو ضجة المحافل .

وتوفي المرحوم عمر مكرم في / 13  مايو سنة 1822م 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

البلاغة والمجاز

الكلام ، والقول والحديث ... ( فروق لغوية )

صـورة بــلاغية !!