بداية تخلص مصر من العثمانيين / أحداث وتاريخ (1)


 
قراءة مختصرة من كتاب :

عبقرية ( عمر مكرم ) للمؤلف / عباس محمود العقاد . عن تاريخ مصر القديم .

( من صفحة رقم 24 من الكتاب ) يذكر العقاد هذه الأحداث المتواصلة لمحاولة مصر التخلص من حكم الدولة العثمانية في تركيا واستقلالها الذي لم يتم مدنيا حتى اليوم إلى في أوقات قصيرة خلت ليتوالى على حكمها المتنافسون على كرسي السلطة ومصيرهم المنتظر من شعب مصر المحروسة والمذكورة في القرآن الكريم ، والحديث النبوي الشريف : بأن جندها خير أجناد الأرض .

علي بك الكبير من المماليك في عهد حكم العثمانيين كان أميرا على مصر قبله /رضوان بك  الذي مات سنة 1700 م 1168 هجرية،وكان عظماء الأمراء عند ذلك هم مماليك شريكه إبراهيم بك ، فأخذوا يتنافسون فيما بينهم  على السلطة إلا واحدا منهم هو علي بلوط قبان فإنه لم يندفع في ذلك التنافس في أول الأمر ، وكأننا به كان ينتظر النتيجة المحتومة لذلك التنافس ، متوقعا أن تطاحن المتنافسين لابد أن يفضي إلى إضعافهم جميعا ، فرضي بالنفي الذي وقع عليه في أول ذلك العهد ، وبقي في منفاه حتى تغيرت الأمور وتقلبت مدة ثلاث سنوات كانت كافية لتصفية المتنافسين .

فلما دُعِيَ من منفاه سنة 1171هـ ( 1757م) بقي مدة ثلاث سنوات أخرى يرقب الحوادث على حذر ، ويتباعد عن الإيغال في المنازعات الصغيرة التي لا تفتر ، وانصرف في هذه السنين إلى الإعلان عن نفسه ، والظهور في مظهر يبهر الأنظار ، ويستولي على ألباب العامة والأمراء ، وجعل يتخذ أعوانه من الأمراء والأعيان ، وكان من أكبر أعوانه عبد الرحمن كتخدا صاحب العمارة المعروف الذي له الآثار الكثيرة من المساجد والسُّبل ، وهو الذي زاد في بناء الأزهر زيادات عظيمة بإعادة بناء المدرستين الطيبرسية ، والإقبغاوية ، وضمها إلى بناء الأزهر ، وكان من أكبر الأمراء وأعظمهم نفوذا ومالا ، على أنه لم يكن من أقواهم جنانا ، ولا من أليقهم للحكم فانتفع به علي بك الكبير لسلطته فأصبح الأمير القوي الذي يلجأ إليه الجميع في مصر وينظرون إلى تقلده السلطان عليهم ، وبقي هو واقفا على شيء يشبه الحياد ، ينتظر الفرصة إذ تُسْنَحُ له ، وكان في أثناء ذلك يتخذ كلَّ وسيلةٍ للظهور والاستكثار من الأعوان الأقوياء وإسداء الأيدي إلى الصَّحبِ والأتباع ، ومن ذلك ظهوره في تزويج هانم ابنة سيده إبراهيم بك ، إذ قام في تزويجها قياما عظيما ، فزفها إلى أحد مماليك أبيها وسعى حتى جعله من الأمراء ، وبذل في ذلك الزفاف أموالا عظيمة جعلت العامة تنظر إليه نظرة اإعجاب والإكبار وجعلت أقرانه يزيدون له تقديرا وفيه أملا وبه تعلقا .

وكانت حوادث السنوات التي مضت منذ موت رضوان بك كافية لاقتناع الأمراء الباقين أن الوقت حان لاستيلاء رجل قوي على الدولة والقبض على أمورها التي اختلت وفسدت ، فكان من الطبيعي أن ينظروا إلى الرجل الذي رأوا نجمه صاعدا كل هذه المدة ، والذي رأوا من حُسْنِ تصرُّفِه وشِدَّةِ جِنَانِه وقوته ما رأوا والذي لم يتورط في أثناء تلك السنين في المنازعات الضئيلةِ التي كانت مثل الرمال الخائنة تبتلع كل من يتورط فيها .

وكانت أول خُطوةٍ في سبيله إلى الحُكم في سنةِ 1176 للهجرة أو سنة 1763 م عندما اختارَهُ عبد الرحمن كتخدا ليكون شيخا للبلد ، أي ليكون الحالكم الأعلى في داخل البلاد في مصر كلها ، وقد أعقبت ذلك خُطوة أخرى في سنة 1177 للهجرة عندما صار أميرا للحج ، أي عندما صار أكبر قائدٍ حربيٍّ مُعترف به في البلاد ، وقد أحاط  علي بك حجَّهُ في ذلك العام بما اعتاد أن يحيط به نفسه من الإعلان والظهور في مظهر الأُبَّهة والعظمةِ ، فلما عاد من حجهِ كان أكبر رجل في البلاد في نظر العامة والأمراء على حد سواء، وأخذ الناس يرددون أسماء أتباعه ورجاله مثل ( محمد بك أبي الذَّهب ) فضلا عن ترديدهم لاسمه ، وإعجابهم بمقدرته وإقرارهم له بالزعامة والقوة .


 


وكانت الدولة العثمانية في ذلك الوقت قد ثقلت عليها يد الروسيا ، في حين كانت النمسا تَخزُّ جنبها وتدمي جوارحها ، فلم يكن لها مع ذلك  فضلةٌ من قوةٍ ولا بقيةٌ من تفرغٍ ، لتنظر إلى أحوال مصر ، وترقب سير الحوادث فيها ، فكان هذا الانشغال ممهدا لدولة من أكبر الدول الحديثة التي قامت بمصر على سيف هذا الحاكم القادر ( علي بك الكبير ).

ومهما يكن من أمره وأمر حكمه وأسلوبه فقد كانت دولته فذَّة في ذلك العصر ، إذ بلغتْ أوجها بموجة الاستقلال السياسي التي غمرتها ، وأصبح الاستقلال معلنا صريحا لا شبهة فيه ولا تقية ، وأزيل مكان الباشا التركي من دولة ( البك الكبير ) وأصبح مَلِكًا في داخل البلاد وخارجها ، وكان مع حرصه على الملك في داخل بلاده ، شديد التفطن إلى الدول الأجنبية ومطامعها ، لايضيره أن تقول له روسيا كلمة تشجيع أو أن تمد إليه يد الصداقة ، ولكنه كان لا يبيح لدولة من دول أوروبا أن يكون لها شأنٌ في دولته المستقلة القوية.

ثم زَلَّتْ به القدم ، فأقدم على التوسعِ في الفتحِ ، واتسع الخَرْقُ حتى رأى نفسهُ منزلِقًا إلى حربٍِ مع دولةِ التركِ في الشام ، متحديًا بذلكَ شعور العامة من المسلمين ، ومُسْتَهْدَفًا لِتُهَمِ مَنْ يَتَّهِمُهُ بالإنكار والخِيَانةِ ، فوجدت الأطماعُ الدفينة ثَلَمَةً تَنْفَذُ منها  ، وكان مَأْتَاهُ من قِبَلِ خازنداره الأمين وقائده المنتصر ( محمد بك أبي الذهب) ، فانهارتْ دولته في عَشِيَّةٍ أو ضُحَاهَا ، ولم يستطع الرجل الكبير أن يثبت في تيار أتى تحلب عليه من كلِّ فَجٍّ عميقٍ .. وحاول النِّضَالَ فلمْ يَسْتَطِعْهُ ، ولكنه أبى إلا القبْرَ مسْكَنًا إذا غلبهُ المنافسُ على مكان الصَّدر ، فَقُتِلَ في عام 1187 للهجرة أي عام 1773م ، ولم يُرِدْ له اللهُ ذُلاًّ ، فقد بذلَ له مملوكه الثَّائرُ من الإكرامِ ما جعل موته شبيها بميتةِ الأسَدِ الكريم ، لا يطمعُ أحدٌ في النيل من كرامته إلى أن يلفظ النفسَ الأخير .

على أن عهد الاستقلال المصري وإن فَقَدَ مليكهُ علي بك ، لَمْ يَفْقِدْ قِوامهُ ، ولم يذهب عنه رونقه ، فقد بقي الاستقلال كاملا مهيبا تحت سلطان  الأميرالثائر محمد أبي الذهب ، ولم يَعْدُ الأمر أن يكون انتقال السياسة من يدٍ إلى أخرى مع بقاءِ كل مظاهر السيادة والدولة على ما كانت عليه ، ولم يَتَّعِظْ أبو الذهب بما آل إليه سيدَهُ علي بك عندما حاول بسط سلطانه على ما يَلِي مصر من البلاد ، فاقتفى أثره في الإغارةِ على الشَّامِ وانتزعَ الجزءَ الجنوبي منها حتى بلغَ عكا ، غير أن الأجل لم يمهلهُ ولا ندري بأي مرضٍ مات وهو في عنفوان شبابه وقوته ، فإنه لم يبقَ بعد دخول عكا إلا أياما أربعة قضاها محموما ثم توفي ، وتناقلت الرسُلُ نبأَ موته ، فلم تبلغ مصر أبناء انتصاره إلا مع إشاعة وفاته ، وذلك في سنةِ 1189 للهجرة أي في سنة 1775م ، فلما مات أبو الذهب رأت مصر قدميها تستطيع أن تتحكم في مصيرها ، ولو كانت عند ذلك خالية اليمين من نضالها في أوروبا لاستعادت كل سلطانها عليها ، ولكن روسيا كانت توالي لها الطعنات والضربات ، فما تكادُ تفيق من ضربةٍ حتى تهوى عليها أخرى . ولهذا كان لابد لها أن تترك الأمر على مجراهُ في مصر ، واكتفت بأن الحاكِمَيْنِ الذّيْنِ قبضَا على زمامِ السلطة عند ذلك لم يكونا على شيٍْءٍ من الصفات التي تُؤَهِّلهما لجليلِ الأعمالِ ، واطمأنت إلى أن مصر لن تستَقِلَّ عنها على أيديهما . ليأتي مَنْ بعدهما .........  
 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

البلاغة والمجاز

صـورة بــلاغية !!

الكلام ، والقول والحديث ... ( فروق لغوية )