الفصل (29) فيف لا كلاس

التاسع و العشرون نظرت فاطمة في المرآة الصغيرة المعلقة في المطبخ الصغير ذي الباب الأصفر العجيب. كانت آخر مرة مسكَتْها عندما طلب منها سي الطاهر أن تناوله إيّاها من أسبوعين ، فهو يستعملها للحلاقة و لا تذكُر أنّ أهل الدار يستعملونها لأيّ شيء آخر. نظرت فيها لتتأمل تقاسيم وجهها و ابتسمت، فقد تفطنت إلى جمال لم تره من قبل، و أنزلت المرآة قليلا حتى تتمكن من رؤية باقي جسدها. احمرّ وجهها و هي ترى أنها نضجت و أنها أصبحت تشبه قليلا الخالة غالية إلا أن فاطمة كانت ممتلئة و نضِرة. "الوسيم البطل"..همستْ لنفسها: هل تراه يذكرها؟ هل تراه نظر إليها و هو يأخذ منها الرسالة؟ هي لا تذكر, فقد كان تبادل الرسالة و العودة إلى القرية سريعا. "أعيدي المرآة مكانها قد تكسرينها". قالت الخالة غالية و هي تحمل خبز الفرن الساخن الذي أعدته لِلتّو, لتضعه على المائدة. ارتبكت فاطمة و علّقت المرآة في الركن المخصص لها. وضعت القدر الصغير و صحنا على المائدة و حملتها إلى الغرفة الوحيدة التي تجمّع فيها الأطفال لطعام العشاء. لم تكن فاطمة ملهوفة كعادتها على الأكل. فقد كانت شاردة صامتة منقبضة الصدر. انتبهت غالية لذلك فسألتها: مالك يا ابنتي؟ أتشكين من شيء؟ جاء صوت فاطمة حزينا ضعيفا: "لا لا أنا بخير فقط أفكّر في "سِيدي" و ما يحصل له." ضمّتها غالية إليها و اغرورقت عيناها بالدموع. أمّي, أمّي, "عمّي عمر" ينادي فعلا فقد كان صوت عمّي عمر, كما انتبهت لذلك خديجة. كانت فاطمة هي من تقضي حاجياته في غالب الأحيان. اتجهت إليه البنت مسرعة فإذا به يُعلمها أن هناك من يطرق باب السقيفة. فتحت البنت الباب فكاد أن يغمى عليها: احمرّ وجهها , ارتعشت يداها , خفق قلبها و أحست بدوار خفيف و هي ترى الوسيم البطل أمامها.( هكذا سمته) الحمد لله أنه لم ينتبه لكل ذلك. و في صمت أعطى رسالة لفاطمة و أوصاها أن توصلها للحكيم و عاد أدراجه من حيث أتى. ليت الزمان توقّف و هي تستقبله عند الباب,ليته بقي قليلا, ليته يعود ليقول شيئا, ليقول إنه نسيَ شيئا. تركت الباب مفتوحا و هي تنتظر علّه يعود لكنه لم يأتِ. أغلقت الباب و هي تشعر بخيبة أمل. ثم و بحركة لا إرادية ألقت نظرة على لباسها و سعدتْ كثيرا عندما وجدت أنها ترتدي الفستان الأحمر المفضّل لديها و أنها تبدو فيه جميلة فاتنة. جاءت غالية تستطلع الأمر. و في الحين أمرت فاطمة أن تذهب لبيت الخالة محبوبة لتؤدي الأمانة لسي الطاهر إذ يبدو أنّ الأمر مستعجل. لم يغمض لفاطمة جفن تلك الليلة، فقد كان خيال الوسيم البطل يحاصرها. تتقلب في مضجعها و تطلق الزفرات المكتومة. أتراه أحسّ بها؟ أتراه رأى وجهها ا
لصبوح؟ (هكذا أخبرتها المرآة الصغيرة ), و فستانها المفضل الذي يُبدي مفاتنها، أتراه انتبه له؟ كان قلبها منشرحا و هي تتفرس في وجهه المشرق و قد زاده خيالها إشراقا. كانت تحس بألم جميل و هي تسترجع صورته في الجبل و أمام باب السقيفة. لا تدري فاطمة أنامت تلك الليلة أم لم تنم فقد انتبهت على صوت غالية يوقظها. "باركي لي يا غالية فَغَدًا عرس حياة." كان باب السقيفة مفتوحا على غير العادة و قد دخلت الخالة محبوبة و هي تزف الخبر. ضحكت فاطمة و قالت : صباح الخير ياخالة. ماذا؟ كلنا نعرف أنّ حياة رحمها الله فماذا تقولين؟ جلست محبوبة على ركن من دكان المطبخ بجانب غالية و قالت في همس: قصدتُ أنّ ابنة أخي التي تسكن القرية المجاورة ستُزَفّ لِعريسها من بيتي غدا مساء. فكوني معي و سأقول لكل الجيران. لم تعلّق فاطمة و لكن غالية استفسرت الخالة محبوبة عن سبب هذا العرس المفاجئ، و لماذا اختارت هذا التوقيت بالذات .و سي الطاهر و الطبيب اللذان يلوذان في بيت الخالة محبوبة، ما مصيرهما؟ ردّت محبوبة متجاهلة السؤال الأخير: إن ابنة أخيها يتيمة الأم و قد أرادت أن تعوّضَها ذلك اليتم في يوم فرحها و تقوم بالواجب و تزفها من بيتها. لم ينطل كل هذا على غالية و لا على فاطمة و فهمتا أنّ في الأمر سرّا ستكشفه الأيام.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأوامر الإلهية في الآيات القرآنية

البلاغة والمجاز

الكلام ، والقول والحديث ... ( فروق لغوية )