الأسلوب وضوابطه البلاغية في اللغة العربية
كيف يكون الأسلوب مطابقا لعقلية السامعين ؟
=================
الأسلوب البلاغي ينبغي ملاءمته لعقلية القائل أو الكاتب ، وعقلية السامع أو القاريء؛
فلايأتي عاليا بعيد الأغوار والعمق يصعب فهمه ، بل يجب أن يكون في متناول عقولهم يمكن إدراكه بيسر وسهولة ، وهذا يتأتى بوسائل كثيرة منها ؛ معرفة القائل أو الكاتب بعلم تام عقليات من يخاطبهم أو يكتب إليهم وطبائعهم
أن يمهر في إجادة أفكاره ولغته واختيار موضوعه ، وأيضا يدرس فوق ذلك عقلية القاريء ومحاولة كتابة إبداعه الأدبي من الشعر أو القصة أو المقال أو أي فن من فنون اللغة على النمط الذي يفهمه ، وأن يشعر بالصعوبات
التي قد يجدها المتلقي فيذللها له .
ولقد عاب بعض النقاد غموض شعر أبي تمام ، بعد نيل مقاصد أخيلته في إبداعه الشعري ؛ ولما سأله سائل : لمَ لا تقولُ ما يفهم ؟!
رد عليه أبو تمام قائلا : وأنت لمَ لا تفهم ما يقال ؟!
وإذا كان لي الحق في التعليق على مقالة السائل وإجابة الشاعر :" فالحق مع السائل ، لا مع الشاعر أبي تمام ,,
لأنه من شروط البيان اللغوي في البلاغة : مطابقة الأسلوب لمقتضى الحال كما قال العرب في تراثهم عن اللغة الفصحى.
فكان على الشاعر أولا أن يراعي عقلية جمهور السامعين ؛ لا الخاصة وحدهم .
كما أخطأ المتنبي في قوله :
أنام ملء جفوني عن شواردها = ويسهر الخلق جراها ويختصموا
لأنه يتعب المتلقين لشعره في الفهم والتأويل لمقصوده ومضمونه ، مع أن شعر المتنبي كان أوضح من شعر أبي تمام في صوره وأخيلته
وهناك أيضا ضرورة مطابقة الأسلوب لموضوع المناسبة أو النص الإبداعي الأدبي :
والموضوعات تختلف في طبيعتها ؛ ضعة ورقيا ، وتختلف الألإكار كذلك سذاجة وتعقدا ، وسهولة وصعوبة ؛ والواجب أن يساير أسلوب الأديب هذه الموضوعات والمعاني التي تعبر عنها ؛
فيأتي سهلا في الموضوعات السهلة ذات المعاني البسيطة ، فهناك من الموضوعات ما يناسبه الإطناب ، وموضوعات أخرى لايناسبها ذلك بل تتطلب الإيجاز وهكذا
وأما عن كيفية الاوصول إلى تحقيق ذلك الهدف البياني في أساليب الأدباء ، فيكون بالاطلاع الكثير على النماذج الأدبية الجيدة ، والاستفادة منها في تربية الذوق الأدبي عند الكاتب أو الشاعر
ليختار من خبراته التي تعلمها مناسبة أسلوبه للموضوع الذي يرغب في الحديث عنه أو الكتابة فيه . وهذا الذوق بعضه غريزي فطري يعتمد على الموهبة البيانية اللغوية لدي الأديب ، وبعضه الآخر
مكتسب بالمخالطة والمعاشرة والقراءة للأدباء المجيدين في الكتب الأدبية الراقية ، وبالمرانة على الكتابة ، وتقبل النقد لتصويب أخطاء اللغة والأسلوب .
وهنا يتمكن الأديب من إدراك الألفاظ والأسليب التي تناسب موضوعاته ، ويعرف ما يحتاج منها إلى قوة وما يحتاج إلى فكاهة ، وما يناسب المقام الذي يتناوله في موضوعه ليوائم الذوق في حديثه
ولنضرب كذلك مثالا على سوء مخالفة الأسلوب للموضوع ، ونتائجه على الأديب :
يروى أن المعتصم الخليفة العباسي بنى قصرا عظيما ، وأراد أن يحتفي ببنائه وسط الناس ، فجمع من أهله وأصحابه وشعرائه جمعا كبيرا ؛ وأجلس الناس منازلهم اللائقة بكل منهم ، فما رأى الناس
أحسن من ذلك اليوم ؛ وأذن للشعراء والمتحدثين أن يتكلموا ، فقال أحدهم ( وهو أبو اسحق بن إبراهيم الموصلي ) أول بيت في قصيدته على مثال ماكان العرب في الجاهلية يبدأون به قصائدهم
من ذكر الآثار البالية والأطلال والدمن :
يا دار غيرك البلى فمحاك = يا ليت شعري ما الذي أبلاك؟!
فتطير الخليفة وانقبض الناس من بداية القصيدة ، وعمهم الأسف والغضب !!
وأبعد الخليفة الشاعر عن مجلسه ؛ لأن أسلوبه جاء مخالفا لمطابقة الموضوع ، وعدم توفيقه في الذوق الأدبي البياني .
والأمر الثالث المهم في مطابقة الأسلوب هو أن يطابق نفس صاحبه المتحدث أو الكاتب
، حتى لا يأتي متكلفا ، مقلدا غيره فيمحو شخصيته وأسلوبه المعروف عنه ، ويخرج كلامه سمجا ثقيل الظل
فكثيرا ما نرى متحدثا يحسن الحديث موافقا لمقتضى ما بداخله من معايشة لتجربته الأدبية في الكلام ، فإذا ما كتب ، جاءت كتابته ضعيفة البيان أو غامضة المفهوم ، لأنه في الأولى طابق نفسه وهواه
ومشاعره ووجدانه ، وفي الثانية تابع غيره في أسلوبه فخرج الكلام من روح غير روحه فعيب عليه .
ألا ترى عندما تطلب من شخص لايوافق نفسه ما يفعل حاكم أو رئيس لا له ولا لغيره من أفراد الناس ، ثم يطلب منه أن يمدحه في عيد ميلاده أو يمدح منجزات ٍ له لا يرتضيها لأنها تحقق مصالح شخصية
لأفراد عائلته وحاشيته دون جماهير الناس ، فتسمعه يأتي بعبارات متكلفة منافقة لا توافق ضميره أو ما تمليه عليه نفسه الخلاقة المبدعة ، حتى وإن كان من أبرع الأدباء في اختيار أساليبه وموضوعاته .
هذه باختصار أمور مهمة تلزم الأديب ليجود أسلوب كتابته ، وتهذيب كتابته والارتقاء بلغتة وبيانه ، واكتساب حب جماهيره وصنع المجد لإبداعه الأدبي.
=================
الأسلوب البلاغي ينبغي ملاءمته لعقلية القائل أو الكاتب ، وعقلية السامع أو القاريء؛
فلايأتي عاليا بعيد الأغوار والعمق يصعب فهمه ، بل يجب أن يكون في متناول عقولهم يمكن إدراكه بيسر وسهولة ، وهذا يتأتى بوسائل كثيرة منها ؛ معرفة القائل أو الكاتب بعلم تام عقليات من يخاطبهم أو يكتب إليهم وطبائعهم
أن يمهر في إجادة أفكاره ولغته واختيار موضوعه ، وأيضا يدرس فوق ذلك عقلية القاريء ومحاولة كتابة إبداعه الأدبي من الشعر أو القصة أو المقال أو أي فن من فنون اللغة على النمط الذي يفهمه ، وأن يشعر بالصعوبات
التي قد يجدها المتلقي فيذللها له .
ولقد عاب بعض النقاد غموض شعر أبي تمام ، بعد نيل مقاصد أخيلته في إبداعه الشعري ؛ ولما سأله سائل : لمَ لا تقولُ ما يفهم ؟!
رد عليه أبو تمام قائلا : وأنت لمَ لا تفهم ما يقال ؟!
وإذا كان لي الحق في التعليق على مقالة السائل وإجابة الشاعر :" فالحق مع السائل ، لا مع الشاعر أبي تمام ,,
لأنه من شروط البيان اللغوي في البلاغة : مطابقة الأسلوب لمقتضى الحال كما قال العرب في تراثهم عن اللغة الفصحى.
فكان على الشاعر أولا أن يراعي عقلية جمهور السامعين ؛ لا الخاصة وحدهم .
كما أخطأ المتنبي في قوله :
أنام ملء جفوني عن شواردها = ويسهر الخلق جراها ويختصموا
لأنه يتعب المتلقين لشعره في الفهم والتأويل لمقصوده ومضمونه ، مع أن شعر المتنبي كان أوضح من شعر أبي تمام في صوره وأخيلته
وهناك أيضا ضرورة مطابقة الأسلوب لموضوع المناسبة أو النص الإبداعي الأدبي :
والموضوعات تختلف في طبيعتها ؛ ضعة ورقيا ، وتختلف الألإكار كذلك سذاجة وتعقدا ، وسهولة وصعوبة ؛ والواجب أن يساير أسلوب الأديب هذه الموضوعات والمعاني التي تعبر عنها ؛
فيأتي سهلا في الموضوعات السهلة ذات المعاني البسيطة ، فهناك من الموضوعات ما يناسبه الإطناب ، وموضوعات أخرى لايناسبها ذلك بل تتطلب الإيجاز وهكذا
وأما عن كيفية الاوصول إلى تحقيق ذلك الهدف البياني في أساليب الأدباء ، فيكون بالاطلاع الكثير على النماذج الأدبية الجيدة ، والاستفادة منها في تربية الذوق الأدبي عند الكاتب أو الشاعر
ليختار من خبراته التي تعلمها مناسبة أسلوبه للموضوع الذي يرغب في الحديث عنه أو الكتابة فيه . وهذا الذوق بعضه غريزي فطري يعتمد على الموهبة البيانية اللغوية لدي الأديب ، وبعضه الآخر
مكتسب بالمخالطة والمعاشرة والقراءة للأدباء المجيدين في الكتب الأدبية الراقية ، وبالمرانة على الكتابة ، وتقبل النقد لتصويب أخطاء اللغة والأسلوب .
وهنا يتمكن الأديب من إدراك الألفاظ والأسليب التي تناسب موضوعاته ، ويعرف ما يحتاج منها إلى قوة وما يحتاج إلى فكاهة ، وما يناسب المقام الذي يتناوله في موضوعه ليوائم الذوق في حديثه
ولنضرب كذلك مثالا على سوء مخالفة الأسلوب للموضوع ، ونتائجه على الأديب :
يروى أن المعتصم الخليفة العباسي بنى قصرا عظيما ، وأراد أن يحتفي ببنائه وسط الناس ، فجمع من أهله وأصحابه وشعرائه جمعا كبيرا ؛ وأجلس الناس منازلهم اللائقة بكل منهم ، فما رأى الناس
أحسن من ذلك اليوم ؛ وأذن للشعراء والمتحدثين أن يتكلموا ، فقال أحدهم ( وهو أبو اسحق بن إبراهيم الموصلي ) أول بيت في قصيدته على مثال ماكان العرب في الجاهلية يبدأون به قصائدهم
من ذكر الآثار البالية والأطلال والدمن :
يا دار غيرك البلى فمحاك = يا ليت شعري ما الذي أبلاك؟!
فتطير الخليفة وانقبض الناس من بداية القصيدة ، وعمهم الأسف والغضب !!
وأبعد الخليفة الشاعر عن مجلسه ؛ لأن أسلوبه جاء مخالفا لمطابقة الموضوع ، وعدم توفيقه في الذوق الأدبي البياني .
والأمر الثالث المهم في مطابقة الأسلوب هو أن يطابق نفس صاحبه المتحدث أو الكاتب
، حتى لا يأتي متكلفا ، مقلدا غيره فيمحو شخصيته وأسلوبه المعروف عنه ، ويخرج كلامه سمجا ثقيل الظل
فكثيرا ما نرى متحدثا يحسن الحديث موافقا لمقتضى ما بداخله من معايشة لتجربته الأدبية في الكلام ، فإذا ما كتب ، جاءت كتابته ضعيفة البيان أو غامضة المفهوم ، لأنه في الأولى طابق نفسه وهواه
ومشاعره ووجدانه ، وفي الثانية تابع غيره في أسلوبه فخرج الكلام من روح غير روحه فعيب عليه .
ألا ترى عندما تطلب من شخص لايوافق نفسه ما يفعل حاكم أو رئيس لا له ولا لغيره من أفراد الناس ، ثم يطلب منه أن يمدحه في عيد ميلاده أو يمدح منجزات ٍ له لا يرتضيها لأنها تحقق مصالح شخصية
لأفراد عائلته وحاشيته دون جماهير الناس ، فتسمعه يأتي بعبارات متكلفة منافقة لا توافق ضميره أو ما تمليه عليه نفسه الخلاقة المبدعة ، حتى وإن كان من أبرع الأدباء في اختيار أساليبه وموضوعاته .
هذه باختصار أمور مهمة تلزم الأديب ليجود أسلوب كتابته ، وتهذيب كتابته والارتقاء بلغتة وبيانه ، واكتساب حب جماهيره وصنع المجد لإبداعه الأدبي.