من قصص المحاكم ( لجون ماكلوي )

المحامي :
كانت قاعة المحكمة في ( نيوبيلي ) تموج بحشدٍ مرحٍ أنيق من النظارة ؛ عندما بدأ نظر قضية شهيرة تتعلق بسرقة أحد المحال التجارية ؛فقد اتهمت ( أورور ) التي تبلغ من العمر تسعة عشر عاما  بسرقة ونقل أشياء معينة مملوكة لمتجر ( المخازن العامة ) وهذه الأشياء هي : 35 ياردة موسلين وعشرة قفازات ، وقطعة من الإسفنج ، ومثقابان ، وخمس قنينات من دهان الوجه ، وثلاث من قبعات الحراس ، وبوصلة بحرية ، وصندوق من دبابيس الرسم ، وأداة لكسر البيض ، وست ( سترات ) نسائية ، وصفارة حوذي .
وكان شاهد الإثبات في هذه القضية هو ( ألبرت جوبسون ) أحد مراقبي المتجر الذي شهد في هذا الصدد بأنه تتبع الفتاة المتهمة خلال الأقسام المختلفة ، وشاهدها وهي تأخذ الوارد في قائمة الاتهام
وقاطع القاضي الشاهد قائلا : لحظة واحدة من فضلك  ..منْ هو محامي المتهمة ؟
وران على القاعة صمت غير متوقع ، وتلفت ( روبرت كارلتون ) الذي جاء إلى المحكمة متسكعا  حوله في تأثرٍ مفاجيء فلقد كانت الفتاة بلا محامٍ ، وحدَّثَ نفسه قائلا : ماذا لو أنتهز هذه الفرصة ؟.. أجلْ سأنتهزها ، ووقف يقول في شجاعة : أنا يا سيدي القاضي
كان ( روبرت ) لا يزال في الحلقة الثالثة من عمره ، ولكنه كان قد أمضى بضع سنوان في المهنة بلا موكلين  ومع ذلك فإنه رغم عدم إقبال الزبائن كان أبعد ما يكون عن الخمول ؛ فقد رشح نفسه لعضوية البرلمان ، لصالح المحافظين والأحرار معا ، كما كتب ست مسرحيات لم يتم إخراجها ، وخطب فتاة ليتزوجها إلا أن توفيقه في مهنته متأخر ، وها هي ذي فرصته قد حانت أخيرا
وجذب شعره المستعار فوق أذنيه بقوة وأخرج منظارا لا إطار له ثم وقف يستجوب الشاهد ؛ وهو الاستجواب الذي تتضمنه الآن كل كتب القانون باعتباره أنموذجا لبراعة الاستجواب المطلوبة للمحامي الناجح
وابتدأ استجوابه للشاهد قائلا في رقة : أنت تقول يا مستر ( جوبسون ) أنك رأيت المتهمة وهي تسرق هذه الأشياء المختلفة ، وأنها وُجِدَتْ معها بعد ذلك ؟
ــ نعم
فقال (روبرت ) : إنني أقول لك ... وانتظر الرد في تروٍ ثم استطرد يقول :
ــ إن هذا محض اختلاق من جانبك ؟
ــ كلا
وأخفى ( روبرت ) خيبة أمله بمجهودٍ خارق ، وعلى الرغم من عدم توقعه هذا الرد فقد احتفظ بثباته ، وعاد يحاول من جديد فقال :
ــ إنني أعتقد أنك تتبعت المتهمة ، وأخفيت هذه المجموعة في عباءتها بقصد الإعلان عن سلعكم الخاصة بفصل الشتاء ؟!
ــ كلا .. لقد رأيتها تسرق
وتجهم وجه ( روبرت ) فقد بدا أن الرجل لا يسايره حتى في أبسط الاقتراحات والافتراضات ، وفي حزمٍ بالغ لمس نظارته ، ثم تراجع إلى خط دفاعه الثالث ... وقال : هل رأيتها وهي تسرق هذه الأشياء ؟ هل تعني أنك رأيتها وهي تأخذها من الأقسام المختلفة وتضعها في حقيبتها ؟
ــ نعم
ــ بقصد دفع ثمنها بالطبع بالطريقة العادية ؟
ــ كلا
ــ أرجو أن تكون دقيقا جدا ... لقد قلت في شهادتك إن المتهمة عندما جُوبِهَتْ بالاتهام صاحت قائلة : أتظن أنني جئتُ من أجل هذا العمل ؟!! أمَا من أحدٍ لينقذني ؟ وإنني أعتقد أنها توجهت إليكَ ، ومعها مجموعة مشترياتها ، ثم أخرجت كيس نقودها وقالت لك:
ــ   كم تساوي كل هذه الأشياء ؟ إنني لا أستطيعُ أن أجد أحدا يخدمني .
ــ كلا
يا لعناد بعض الناس ، وأعاد ( روبرت ) نظارته إلى جيبه ، ثم أخرج أخرى ،واستمر الاستجواب التاريخي فقال :
ــ  سنترك هذه المسألة الآن  ؛ ورجع إلى ورقة في يده ثم نظر إلى مستر ( حوبسون ) بوجه عابس وقال له :
ــ مستر ( جوبسون ) ..كم مرة تزوجتَ ؟
ــ مرة واحدة 
ــ حقًا ؟
وتررد قليلا ثم قرر أن يخاطر بإلقاء السؤال التالي : أظن أن زوجتك قد تركت ؟
ــ نعم
لقد كانت رميةٍ بعيدة ، ومع ذلك فقد أفادت الخطة الجريئة ، وتنفس ( روبرت ) الصعداء ..ثم قال : 
ــ  هل لك أن تذكر للسادة المحلفين السبب الذي دعاها إلى تركك ؟
ــ لقد تُوُفِيَتْ
ولو كان هناك شخصٌ آخر أقل كفايةً من ( روبرت ) لكان من المحتمل أن يُصيبه الارتباك ، ولكن ( روبرت ) لم تخنه أعصابهُ الحديدية وقال : ــ تماما ..، ولكن هل حدث ذلك في الليلة التي أخرجت فيها من نادي ( برلمان هامبتسيد ) لأنك كنت مخمورا أم لا ؟
ــ لم يحدث لي ذلك قط
ــ حقًا ؟ هل لك أن ترجع بذاكرتك إلى ليلة 24 من إبريل 1897 ؟ ماذا كنت تفعل في تلك الليلة ؟
فقال (جوبسون ) بعد أن فتَّشَ ذاكرته وبحثَ فيها عبثا : ليست لديَّ أية فكرة عن ذلك 
ــ إنكَ لا تستطيع  في هذه الحالة أن تقسم على أنك لم تطرد من ( برلمان هامبتسيد )؟
ــ ولكنني لم أكن عضوا به قطُ
وتلقف (روبرت ) هذا الاعتراف المؤذي فقال : ماذا ؟ لقد قلت للمحكمة إنك تقطن في ( هامبتسيد )، ومع ذلك فأنت تقول إنك لم تشترك قط في برلمان ( هامبتسيد ) أهكذا فكرتك عن الوطنية ؟
ــ لقد قلتُ إنني أقطن في ( هاكسني ) 
ــ حسنًا فليكن برلمان ( هاكسني ) إنني أقول إنك طردتَ من نادي ( برلمان هاكسني )لأنكَ....
قاطعه قائلا : إنني لا أنتمي إلى هذا البرلمان أيضا .
فقال (روبرت  بلهجة المنتصر : تماما ... لأنك طردت منه بسبب الإفراط في الشراب 
ــ ولكنني لم أنتسب إليه قط
ــ حقا ؟ هل أفهم من هذا أنك تفضِّلُ أن تقضِيَ أمسياتك في الحانة ؟
فأجاب الشاهد غاضبا : إذا أردت أن تعرف فإنني أنتمي إلى ( نادي هوكني ) للشطرنج؛ وهذا ما يستغرق أكثر أمسياتي 
وتنهد ( روبرت ) مبدِيًا ارتياحهُ ، ثم التفت إلى المحلفين قائلا : 
ــ  وأخيرا يا سادة وصلنا إلى الحقيقة ؛ ولقد كنت موقِنًا أننا سوف نصل إليها في النهاية بالرغم من مراوغات مستر ( جوبسون ) 
ثم تحول إلى الشاهد قائلا في صرامة ٍ: والآن يا سيدي لقد قررت المحكمة أنه ليس لديك أية فكرة عما كنت تفعله في ليلة 24 من إبريل 1897 ، وأني أذكركَ مرة أحرى بأن فقدان ذاكرتك هذا راجعٌ إلى أنك كنتَ في حالة سُكْرٍ بمقر نادي ( هوكني ) للشطرنج
، فهل تقسم على ذلك أن الأمر لم يكن كذلك ؟
وسرتْ في القاعة تمتمةُ إعجاب بالطريقة التي اتبعت لإقتفاء أثر الحقيقة دون هوادةٍ ، بينما شدَّ ( روبرت ) قامته ووضع نظارتيه الاثنتين معا على أنفهِ ثم قال :
ــ هيَّا تكلم أيها السيد ... إن المحلفين في الانتظار 
ولكن الذي تولَّى الإجابة لم يكن ( جوبسون ) بل محامي الإدعاء الذي قام من مقعده ببطءٍ وقال : 
ــ سيدي القاضي إن هذه مفاجأة تامة بالنسبة لي ، وإنني في هذه الظروف لا يسعني إلا أن أنصح موكلي بالانسحاب من الدعوى
فقال القاضي : إنه قرار صائب جدا ، ولِيُطْلَق سرحُ المتهمة دون أي تلطيخٍ لسمعتها 
وتدفقَ الزبائنُ على (روبرت ) في اليوم التالي ، وعُهِدَ إليه بكل القضايا الكبرى في محكمة الإنصاف ، وفي خلال أسبوع قُبِلَتْ مسرحياته الست ، وبعد أسبوعين انتخبَ عضوا في البرلمان ممثلا لعمال المناجم عن دائرة ( كوفيل ) ، وتمَّ زواجهُ في نهاية الشهر ، وكانت هدايا الزفاف أكثر وأغلى ثمنا من المعتاد ،
وكان من بينها :
خمس وثلاثون ياردة من الموسلين
وعشرة قفازات
وقطعة من الإسفنج 
ومثقابان 
وخمس قنينات من دهان الوجه
وثلاث قبعات ، وبوصلة بحرية ، وصندوق من دبابيس الرسم ، وأداة لكسر البيض 
وست سترات نسائية 
وصفارة حوذي 
ومعها بطاقة كُتِيَ عليها :( من صديق قديم معترفٌ بالجميل )
انتهت
                       

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأوامر الإلهية في الآيات القرآنية

البلاغة والمجاز

الكلام ، والقول والحديث ... ( فروق لغوية )