إيضاح وإيجاز لبحثٍ عن القياس والسَّماعِ ( اللغة العربية النحو )
تعريف مختصر بالفقيه اللغوي المعتبر ابن جني :
هذه نبذة لمزيد من التعريف بالعالم اللغوي النحوي المعروف بأبي عثمان بن جني عالم أعلام النحو العربي الكبير المولود بالموصل في عام 322هجرية ، ونشأ فيها على يد أحمد بن محمد الموصلي الأخفش ، ويذكر ابن خِلِّطان أنَّ ابن جني قرأ الأدب في صباه على يد أبي عليٍّ الفارسيِّ حيثُ توثقتْ الصلاتُ بينهما حتى بلغ ابن جني بسبب صحبَتِهِ وحتى سأله أستاذه أبو علي في مسائل نحوية وصرفية كثيرة ، مما يدل على أن التلميذ قد يتفوق أحيانا في العلم على أستاذه الذي علمه في بعض الأمور والأحوال .
* وله هذا البحث النفيس في باب القياس في اللغة العربية في كتابه الخصائص والذي أورده بنصه ومدحه الدكتور عباس حسن صاحب كتاب النحو الواضح في آخر الجزء الثاني من كتابه الذي درسته وتعلمت منه اللغة العربية في فرع النحو والصرف فيها ، وقد تطرَّق ابن جني في بحثه القَيِّم المفيد عن القياس والسماع والأوزان المقيسة ونماذج لها للتوضيح ، وقد قرأت هذا البحث بتأنٍ ودقة وتفهم وأعجبني فرغبت في إيضاخ ما فيه وتلخيصه للكاتب والشاعر والقاريء المؤلف حتى يستفيد منه عند نثره أو نظمه لما يكتب أو يؤلف الشعر أو ينشر المقالات المدققة لغويا على الوجه الصحيح والسليم لغويا فأقول وبالله التوفيق وعليه الاعتماد :
*بداية عند الحديث عن القياس اللغوي والسماع والابتكار والتطوير أنقل لكم هذه الفقرة من كلام عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين حين قال :
(لغتنا العربية يسر لا عسر ونحن نملكها كما كان القدماء يملكونها، ولنا أن نضيف إليها ما نحتاج إليه في العصر الحديث)، لا أجد أفضل من كلمات عميد الأدب العربي د. طه حسين في وصفه للغة العربية التي اتهمت افتراء تارةً بالصعوبة والتعقيد وتارةً أخرى بالقصر والعقم والعجز عن استيعاب العلوم والتكنولوجيا ومسايرة العصر، ولا أدري كيف تكون لغتنا صعبة ومعقدة وقد أتقنها القادمون إلى بلادنا من الشرق والغرب في أشهر قليلة ؟ وكيف تكون لغتنا عاجزة عن استيعاب العلوم والمعارف الحديثة وقد استوعبت من قبل طب ابن سينا والرازي ورياضيات الخوارزمي ونظريات ابن حيان وابن الهيثم وفلسفة الفارابي وابن رشد؟ اللغة يا قومي هي وعاء للفكر والأدب والعلوم والفنون والفلسفة، فما ذنب الوعاء إن لم يوضع فيه شيئاً؟. إن اللغة ترتفع مكانتها وتسمو بين اللغات حين يعتز بها أهلها ويتحدثون بها، ويعلمونها لأبنائهم فتظل خالدة على مدار الزمان، لغتنا العربية لغة الوحي والرسالة، وهي تعبر عن جذورنا وهويتنا وتراثنا وماضينا العريق؛ ولذلك حرص المستعمر القديم على اقتلاع اللسان العربي ليتم الانفصال عند الأجيال الحديثة وتاريخها وتراثها، وأمة بلا ماضٍ بلا حاضر ولا مستقبل، ولا أجد أفضل مما قاله حافظ الفصحى وشاعر النيل في قصيدته «اللغة العربية تتحدث عن نفسها»: وَسِعْتُ كِتابَ اللهِ لَفظًا وَغَايَةً** وَمَا ضِقْتُ عَنْ آيٍ بِهِ وَعِظَاتِ ....فَكَيفَ أَضيقُ اليَومَ عَن وَصفِ آلَةٍ** وَتَنسيقِ أَسْماءٍ لِمُختَرَعاتِ **أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ ** فَهَل ساءلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي .....
والحقيقة أن كلَّ اللغة تستدرَكُ بالأدلة القياسية أو السَّماعية عن علمائها القدماء والمحدثين ، فما أمكنَ فيه القياس قسناه وتعلمناه ونقلناه للآخرين ليتعلموه ، ومن السَّماعِ عرفناه ممن نحن لهم متبعون من العرب وعلى مثله وأوضاعه حاذون بغير عجزٍ عنه في فكر ومعرفة أو جمود نفس وضلال خاطر لعيب فينا إن حدث لا قدر الله ؛ فاللغة تروى وتساير كل عصر من العصور بمستجداته وتغيراتها التطورية بغير إيراد العيب فيها بل بإضافة الجديد وترك الغريب المستهجن واستبداله بناء على أصل وتقنين يفصله المتخصصون من علماء المجامع اللغوية العرب في كل مكان ، في اشتقاقاتهم من الشائع في الاستعمال بين الناس في كل زمان ، وتفنيد المصطلحات المستوردة وإجازتها إلى معاجم العربية للاستخدام بالقياس أو السماع ، فعملية القياس اللغوي ليست تأليفا جديدا لهذه الصناعة اللغوية بل هي ظاهرة وجدتْ في صدور الأشياخ وارتبطت بالنحو والصرف وضبط الميزان الصرفي للممقيس ومشتقاته ، ومن هنا يضرب الباحث ابن جني أمثلة موضحة لتلك النماذج المقيسة على أوزان معروفة فيقول :
**ألا ترى أنهم يقولون في وصايا جموع التكسير للألفاظ المفردة أنَّ ماكان منها على وزن ـ أَفْعُل ـ مثل كَلْب وأَكْلُب ، وفرْخ وأَفْرُخ ، وكعْي وأَكْعُب .. من الثلاثي يكون تكسيره ما ورد عقب مفرده فيما ذكروا .لجمع الكثرة ، ويكون في جمع القلة على وزن أفعال نحو : جبل وأجْبال وكبد وأكباد وقفل وأقفال وحِمل وأحمال ؛ ولم يحَدِّدوا كل الأمثلة ؛ فهل قالوه لِيُعَرَفَ هو وَيُقَاسُ عليه ؟!!أو على القاريء أن يحمله على القياس مع نظيره في اللغة العربية ؟!! في باب القياس اللغوي .؛ وهذا يتعارضُ مع قياس جمع كلمة ( الرِّجْزِ التي وردت في القرآن الكريم في الآية 59 من سورة البقرة في الذين بدلوا كلام الله : ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رِجْزًا من السماء بما كانوا يفسقون ).....
ومعنى الرِّز هنا هو العذاب ؛ حيث لم يسمع في العربية عن جمعه على وزن أفعال كما قيس غيره بقول ـ أرجاز ـ قياسا على حِمْل وأحمال وما تقدم ... وكذلك لو احتجتَ إلى تكسير كلمة ـ عَجُر ـ من قولهم :( وَظِيفٌ عَجُرٌ ) والوظيف هو / الجزءُ الدقيق من ساقِ الإبِل وغيرها والعَجُرُ هنا هو الصَّلْبُ ؛ كما يقاس على يقظ وأيقاظ ( نقيض النوم ) و ( نَدُسَ وأنداس ) وهو الرجل السريعُ الاستماع إلى الصوت الخَفِيِّ .) والقول أن أعجار لم يسمع عن العرب كذلك لم يسنع في لفظ ( شِيَع أشياع لو قسناه بأمثاله مما ورد عن القدماء ؛ لكنك سمعت عن ( نَطِعَ وأنطاع وضَلِعَ وأضلاع .....
** كذلك قولهم:إن الماضي على فَعُلَ فالمضارع منه يأتي على يَفْعُلُ فلو أنك هلى هذه القاعدة النحوية الصرفية سمعت ماضيا على فعُلَ لقلتَ مضارعه على يفعلُ مطلقا اقتداء بالقاعدة وإن لم تسمع المضارع منه على يفعُل في كلامهم مثل : ضَؤُلَ لم يأت في اللغة العربية يضْؤُل ، ولم يحتج للتوقف لسماعه لأنه لو كان محتاجا إلى ذلك لما كان لهذه الحدود والقوانين التي وضعها النحاة المتقدمون وعمل بها المتأخرون في قواعد اللغة معنى يفاد ، ولكان القوم قد جاءوا بجميع المواضي والمضاعات وأسماء الفاعلين والمفعولين والمصادر وأسماء الأزمنة والأمكنة والأحادي والثنائي والجموع والتكابير والتصاغير ؛ بل كان واجبا عليهم أن ينصوا على كل كلمة من هذه الجزئيات إذا كانت القواعد لاتغني عن القياس ، ولما أقنعهم أن يقولوا : إذا كان الماضي كذا فتكسيره كذا وجب أن يكون المضارع كذا واسم فاعله كذا وإذا كان الواحد كذا فتكسيره كذا دون أن يستوفوا كل شيءٍ في اللغة ؟فيوردوه لفظا لفظا منصوصا معينا بقياسه وسماعه في كلامهم من نثر أو شعر ...ومن هنا كان متاحا لكل عربي يفهم لغته ويجيد قواعدها أن يجدد فيها ما يشيع استعماله ممن حوله منها ليسمعه الآخرون ويفهموه ويعوه ويعملوا به فترى لغة القوم به ولاتعجز عن مسايرته للتطوير ؛ فالقوم بحكمتهم قد وزنوا كلام العرب فوجدوه ضربين أو صنفين أو نوعين : أحدهما : ما لابد من تقبله كهيئته لا بوصبة القياس فيه ولا التنبيه عليه نحو / حجر ـ ودار ـ وباب ـ وبستان ـ وضبع ـ وثعلب ...والوجه الآخر هو : ما وجدوه يتدارك بالقياس وتَخِفُّ الكلفة في علمه ومعرفته على الناس فقننوه وفصلوه ؛ فقد قدَّم القوم في أول المقصور والممدود ما يتدارك بالقياس من حاله وصفته ثم أتبعوه بما لابد له من السماع والروايات عنه ؛ فقالوا المقصور من حاله كذا ، والممدود من كذا وسببه من كذا ، ووصفوا ما فيه علامة التأنيث من المؤنث كذا نحو قولهم : من المؤنث ( رَوَى رُواية ) ...
ولنا إن شاء الله مساهمة أخرى لتتمة هذا البحث بالتلخيص والتركيز عن ابن جني والمصادر الأخرى المتعددة بعون الله ومشيئته .
تعليقات