بحث بين / المناقشة والمناظرة ،والجدل ، والمكابرة . أدب عربي

تستخدم المناقشة في العملية التعليمية بين المعلم وتلاميذه أو طلابه في مراحل التعليم المختلفة لتوصيل وتأكيد المعلومة في الدرس بعد مراجعتها وشرحها للمتعلم ، وتدور على شبه الأسئلة عبارات المناظرة ، والجَدَل ، والمكابرة ؛ وأحيانا تطلق إحداها هعا في مواضع الأخرى ، ولكن لو تأملنا ودققنا النظر لوجدنا أن هناك اختلافا واضحا في كل اصطلاح منها : * فالمناظرة / يكون الغرض منها الوصول إلى الصواب في الموضوع الذي اختلفت فيه أنظار المتناقشين حوله ..... * والجدل / يكون الغرض منه : إلزام الخَصم ، والتغلب عليه في مقام الاستدلال بالحجة والدليل في الموضوع المتناظر فيه . * والمكابرة / لايكون الغرض منها إلزام الخصمِ ، ولا الوصول للحق المضمون في الحوار والجدل بل احتياز المجلس ، والشهرة أو مطلق اللجاجة ، وغير ذلك من الأغراض التي لا تغني في الحقِّ فتيلا ..... ** ويلاحظ أمران : هما / أن المناقشة الواحدة قد تشمل على كل هذه الأنواع الثلاثة ؛ فقد يبتدئي المناقشان متناظرين طالبين للحق ، فينقدحُ في ذهن أحدهما رأيٌ يَثْبُتُ عليه ، ويأخذُ في جذبِ خصمِهِ إليه ، وإلزامه به ، وحينئذ تنقلبُ المناظرة جدلاً ، وقد تدفعه اللجاجة إلى التعصبِ لرأيهِ ، وتأخذهُ العِزَّةُ بالإثم ، فتبدو له الحججُ واضحةً على نقيضِ رأيه ، ويبدهُهُ خصمُه بالدليل تِلْوَ الدليل ، فلا يَحِيرُ جوابا ، ومع ذلك يستمرُّ في لجاجته ، فينتقلُ الجدلُ إلى مكابرةٍ .. وقد تشتمل المناقشة على جدلٍ ومناظرةٍ ؛ كأكثَرِ المحاورات السُّقْرَاطِيّةِ فقد كان سُقْرَاط يبتدئيُ بمجادلةِ خصمِهِ فيما يَدَّعِيهِ حتى يُفْحِمُهُ فيقتنع بجهله ، ثم يناقشه حتى يأخذ بيده إلى الحَقِّ ..... * ثانيهما : أن الجدلَ قد يطلق في اللغةِ ويراد منه المناظرةُ ؛ وذلك كما في قوله تعالى : ( وجادلْهم بالتي هي أحسن ) ، وقوله سبحانه وتعالى : ( ولا تجادلوا أهلَ الكتاب إلا بالتي هي أحسن... ، وقد تُطْلَقُ المناظرة ويراد منها الجدل أو المكابرة لغةً .......) كقول الإمام الغزالي في رسالة : أيها الولدُ .. أيها الولد إني أنصحكَ بثمانيةٍ ، اقبلها مني يكون علمُك خصما عليك يوم القيامة ، وتعمل منها أربعةٌ ، وتدعُ منها أربعة :....* أما اللواتي تدع ؛ فإحداهما ألا تناظر أحدًا في مسألةٍ ما استطعتَ ....لأن فيها آفاتٍ كثيرةٍ ، فأثمهما أكبرُ من نفعهما ، إذْ هي منبعُ كل خلق ذميمٍ ؛ كالرياء والحسدِ والكِبْرِ والحِقْدِ والعَداوةِ والمباهاةِ وغيرها .....، والمناقشة التي تَجُرُّ إلى هذه الرزائل إنما هي جَدَلٌ أومكابرةٌ ، والأول يشتمل على المناظرة أصلا ..... ** وقد عُنِيَ العلماء في الإسلام بالجدل والمناظرة عنايةً شديدةٍ ، من يوم أن نشبَ الخِلافُ الفكري بين العلماء ورجال الفكر في هذه الأمة ، وانتهت عنايتهم بوضع قواعد لتنظيم الجدل والمناظرة ؛ لكي يكونا في دائرة المنطق والفكر السليم ، وأسموها ( علم الجدل ) أو علم أدبِ البحث والمناظرة ...... وقد قال فيه ابن خلودن : في مقدمته / وأما الجدلُ فهو معرفة آداب المناظرة ، التي تجري بين أهل المذاهب الفقهية وغيرهم ، فإنه لما كان باب المناظرة في الرَّدِّ والقبول متسعا ، وكل واحد من المتناظرين في الاستدلال والجواب يرسل عنانهُ في الاحتجاج ، ومنه ما يكون صوابا ، ومنه ما يكون خطأ ، فاحتاج الأئمة إلى أن يضعوا آدابا ، وأحكاما يقف التناظرون عند حدودها في الرد والقبول ، وكيف يكون حال المستدل والمجيب ؟، وحيث يسوغ أن يكون مستدلا ؛ وكيف يكون مخصوصا منقطعا؟ ومحل اعتراضه أو معارضته ، وأين يجب عليه السُّكوت ؟، ولخصمه الكلام والاستدلال ؟!؛ ولذلك قيل : فيه أنه معرفة بالقواعد من الحدود والآداب في الاستدلال التي يتوصل بها إلى حفظ رأي ، وهدمه ، كان ذلك الرأي من الفقه أو غيره ..... ثم نذكر أنه لا جدلَ إلا حيث يكون الاختلاف في إدراك حقيقة من الحقائق ، ولو أردنا أن نعين مبدأ هذا الاختلاف الفكري بين بني الإنسان ما اهتدينا ، وهذا الاختلاف قديم بقدم الإنسان في الكون على هذه الأرض حيث ابتدأ ينظر إليه فيشده عظمته وتأخذه الحيرة في إدراك كنهه وحقيقته ، وتلك نظرات فلسفية إلى الكون فلابد أن نقول : إن الصور والأخيلة التي تثيرها تلك النظرات تختلف في بني الإنسان باختلاف ما وقعت عليه أنظارهم وما أثار إعجابهم ، وكلما خطا الإنسان خطواتٍ في سبيل المدنية والحضارة اتسعت فرجات الخلاف ، حتى تولد منه اختلاف المذاهب الفلسفية والديانات المنزلة وغير المنزلة وغير ذلك من وجهات النظر . لغموض الموضوع في ذاته ، كقول أفلاطون : إن الحق لم يُصِبْه الناس في كل وجوهه ، ولا أخطأوه في كل وجوهه ؛ بل أصاب كل إنسان جهةً منه ......، ومن الأسباب غموض موضوع بذاته في النزاع فكثيرا ما يختلف المتجادلان ويشتد بينهما الخلاف في طلب الحقيقة ولابد من تفهم دلالات الألفاظ عند الجدل والحوار في أية مسألة فقد يراها المناظر من وجه ويراها خصمه من وجهها الآخر فيكون لكل منهما حجته ودليله .... بحسب اختلاف الرغبات والشهوات والأمزجة والاتجاهات ، وتقليد السابقين ومحاكاتهم ، واختلاف المدارك فبعض الناس قد أتاه الله عقلا راجحا وبصيرة نافذة ، وفكرا ثاقبا يدرك الموضوع من كل نواحيه ، ويُلِمَّ بظاهره وخوافيه ، وبعضهم فيه قصور نظر ، فلا يستطيع أن يحيط بالموضوع بنظرة شاملة ؛ وفيه قصور فكر فلا يدأب في البحث عن الحقيقة إلى النهاية .....ومن أسباب ذلك ودوافعه أيضا الرياسة وحب السلطان والتعصب للرأي ، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أخوفُ ما أخاف على أمتي رجل منافق عليم اللسان ، غير سليم القلب يغيرهم بفصاحته وبيانه ، ويضلهم بجهله وقلة معرفته )..... كما أن سيطرة الأوهام تستولي على كثير من الناس تجعلهم يُسَلِّمُون بأفكار غريبة في ذاتها وهم باعتناقهم لها يخالفون من لم يقعوا تحت تأثيرأوهامِهِم وهي ليست مقصورة على العوام بل قد تكون عند بعض خواص العلماء ... والله أعلم =====================================================ِ المصدر المنقول منه بتصرف مع غيره كتاب الخطابة للاشيخ محمد أبوزهرة .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأوامر الإلهية في الآيات القرآنية

تصريف الأفعال في اللغة الفارسية

الكلام ، والقول والحديث ... ( فروق لغوية )