الإطناب البلاغي في اللغة العربية (3)
معناه : زيادة الألفاظ على المعنى بشرط أن تكون لفائدة ، وإلا كانت الزيادة ( حَشْوًا ) أو ( تطويلا ) ؛ وهما مُخِلاَّنِ ببلاغة الأسلوب والكلام ؛ بل لا يعد الكلام معهما إلا ساقطا عن مراتب البلاغة كلها وبيان ذلك :
1- أما الإطناب بالحشو فهو أن تكون في الكلام زيادة متعيَّنَة لا يفسد بها المعنى البلاغي كقول الهُذَلِيّ :.....
ذَكّرْتُ أخي فعاودني *** صُداعُ الرَّأْسِ والوَصَبِ.....
فذكر الرأس ( حشو ) ؛ لأن الصداع لا يكون إلا في الرأس ...........
وكقولِ زهير :.....
وأعلمُ عِلْمَ اليوم ، والأمس قبلَهُ *** ولكنني عنْ عِلْمِ ما في غدٍ عَمِي.... فكلمة (قبله) حَشْوٌ ؛ لأن الأمس لا يكون إلا قبلا .... ومن هذا النوع ماتراه بكثرةٍ في الشعر ؛ من قولهم : لعَمري ، ويا خليلي ، ويا صاحبي __ حين لا يكون ما يدعو إلى القَسَمِ ، ولا يوجد من ينادى من خليل أو صاحب ، كقول البحتري مثلا :ما أحسنَ الأيام إلا أنها *** ياصاحبي إذا مَضَتْ لمْ تَرْجِعِ....
** ويكثر في النثر ذكر أصبح ، وأمسى ، ونحوهما ؛ مما لا يراد به الزمن ؛ كما يقولون : أصبح فلان ثريا ... أما إذا أريد الزمن فلا يكون حشوا .
2- وأما التطويل : فهو أن تكون الزيادة غير متعينة كقول عَدِيّ : ( وألقى قولها كذبا ومينا ... فالكذب ، والمَيْن بمعنى واحد ، وإحدى الكلمتين زائدةً ، فلا يتغير المعنى بإسقاط أيهما شِئْتَ ....... وكقول الحطيئة : ...
قالتْ أُمَامَةُ : لا تجْزَعْ، فقلتُ لها : *** إن العَزَاءَ وإنَّ الصبرَ قَدْ غُلِبا ......
هَلاَّ التمستِ لنا إنْ كنتِ صادِقَةً *** مالاً نعيشُ به في الناسِ أو نَشَبَا .....فالعزاءُ والصبر ، بمعنى واحد ، وكذلك ( المال والنشب) ...
وكقول المنَخَّل اليشكري :ولقد دخلتُ على الفتا***ةِ الخدرَ في اليوم المطير....
الكاعب الحسناء تَرْ***فُلُ في الدّمقسِ وفي الحرير .....
فالدمقس ، والحرير يكاد معناهما يكون واحدا ، والذي يهوِّن هذا أن يكون للشاعر عُذْرٌ من القافية يضطره إلى الزيادة والإطناب ...
===============
ونتحدث في البحث عن ذكر أنواع الإطناب التي لا تُخلُّ ببلاغة القول أو الكلام وأشهرها ما يلي :...
1- الإيضاح بعد الإبهام ؛ وهو أن يذكر المعنى مجملا ، ثم مفصلا ، فيزيده نبلا وشرفا ؛ ومن ذلك قوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا ؛ هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ؟ تؤمنون بالله ورسوله ، وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ) ... فقد أبهم التجارة إبهاما يدعو إلى الشوق إلى معرفتها ، ثم فسرها بقوله ( تؤمنون ) ، وكقوله تعالى : ( وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هـؤلاء مقطوعٌ مصبحين ) فأبهمه في كلمة ( الأمر ) لتوجيه الذهن إلى معرفته ، ثم وضحه بعد ذلك تهويلا لأمر العذاب الذي ينتظرهم ..... ومن ذلك قول النابغة الجعدي : المرءُ يرغَبُ في الحيا*** ةِ وطولُ عيشٍ قدْ يّضُرُّه...
تَفْنَى بشاشتهُ ويبقى ** بعد حُلْوِ العيشِ مُرُّه......................
وتسوءهُ الأيامُ حـــتى **** مايرى شيئا يسُــره... فقد أجمل في البيت الأول ما ينال الإنسان من الضرر إذا طالت به الحياة ، ثم فصَّل ذلك في البيتين التاليين ، فزاد المعنى جمالا وحُسْنا ....
2- ذكر الخاص بعد العام : ويكون للتنبيه على مزيةِ وفضلٍ في الخاص وذلك مثل قوله تعالى :(حافظوا على الصلاة والصلاة الوسطى ...) خصَّ الصلاة الوسطى ( وهي العصر ) بالذكر لزيادة فضلها .... وقوله تعالى :( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ، ويأمرون بالمعروف ) فالأمر بالمعروف داخل في عموم الدعوة إلى الخير ، ولكنه خُصَّ بالذكر للإشارةِ إلى مكانه من الشرفِ والفضل ... وقوله تعالى : ( إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فَأَبَيْنَ إن يحملنها ، وحملها الإنسان ، إنه كان ظلوما جهولا .) فذكر ( الجبال) وهي من الأرض للإشارةِ إلى تفخيم شأن الأمانة وأن حملها ليس بالهيِّن اليسير ؛ فإن الجبال على عظمها أشفقتْ من حملها .......
3- التكرير : ويكون ذلك لتقرير المعنى في النفس ؛ كما في قوله تعالى : ( كلاَّ سوفَ تعلمون ، ثم كلاَّ سوف تعلمون ) فقد أكدَ الإنذار بتكريره ليكون أبلغ تأثيرا ، وأشد تخويفا ....وقد تكررت في بعض سور القرآن الكريم آيات للمبالغة في التحذير ؛ كما في سورة المرسلات ، وسورة القمر ، أو للتذكير بنعم الله التي لا تحصى ؛ كما في سورة الرحمن .....وقد يكون التكرير للترغيب في قبول النصح ، كقوله تعالى :( وقال الذي آمن : ياقوم اتبعونِ أهدكم سبيل الرشاد ، ياقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع ، والآخرة هي دار القرار .) ... ففي التكرير في ( ياقوم ) تعطيفٌ لقلوبهم ، حتى لا يَشُكُّوا في إخلاصه لهم في نصحهِ ....
وقد يكون لطول الفصل كما في قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام :( يا أبت ؛ إني رأيتُ أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ؛ فكرر ( رأيت ) لطول الفصل .... ومن ذلك في الشعر قول الشاعر : ...
أَسِجْنَا ، وَبُعْدًا ، واشتياقا ، وغربةً *** ونَأْيَ حبيبٍ ـ إن ذا لعظيم ...
وإنْ امرأٌ دامت مواثيق عهده *** على مثل هذا ــ إنه لكريم .....
4- التذييل : ويكون بتعقيب جملة بجملةٍ أخرى مشتملة على معناها تأكيدا لمنطوق الأولى أو مفهومها ( فالأول) كقوله تعالى :( وقل جاء الحق وزهق الباطل إنَّ الباطل كان زهوقا ) فجملة (إن الباطل كان زهوقا ) مؤكدة لمنطوق ما قبلها ، ....
وكقول الحطيئة : تزور فَتىً يُعْطِي على الحمد ماله *** ومن يعطِ أثمان المحامدِ يُحْمَدِ.... فالشطر الثاني توكيد لمنطوق الأول ...
والثاني كقول النابغة الذبياني : ولستَ بمسْتَبْقٍ أخاً لا تَلُمُّه *** على شَعَثٍ أيُّ الرجالِ المهذَّبُ ؟!....
فمفهوم قوله : ولست بمستبق أخا لا تلمه على شعث؛ أنه لا يوجد من كملت فيه الفضائل ، وهذا هو معنى التذييل بقوله ( أي الرجال المهذب ) ؟....ومن التذييل ما يجري مجرى المثل ، كما في الأمثلة السابقة ، ومنه ما لايجري مجرى المثل كقوله تعالى :( ذلك جزيناهم بما كفروا ، وهل نجازي إلا الكفور ) ....فقوله سبحانه وتعتالى : ( وهل نجازي إلا الكفور ) تذييل لا يجري مجرى الأمثال ، إذ المراد الجزاء المدلول عليه في الآية السابقة ......
ومنه في الشعر نحو قول ابن بناتة السَّعدي : لم يُبْقِ جودك لي شيئًا أؤملُهُ *** تركتني أصحب الدنيا بلا أَمَلِ ... فجملة ( تركتني أصحب الدنيا بلا أمل ) لا يفهم معناها إلا بما قبلها .... وقد اجتمع النوعان في قوله تعالى :( وما جعلنا لبشرٍ من قبلك الخُلْد ، أفإنْ مِتَّ فهم الخالدون ) كل نفس ذائقة الموت ) فقوله : أفإن مت فهم الخالدون ) تذييل لا يجري مجرى المثل ، وقوله : ( كل نفس ذائقة الموت ) مما يجري مجرى المثل .....
5- الاعتراض : وهو أن يؤتى في خلال الكلام ، أو بين كلامين متصلين في المعنى بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب ، لفائدة زائدة فمن أمثلة ذلك قوله تعالى :( ويجعلون لله البنات . سبحانه ! ولهم ما يشتهون ) فجملة ( سبحانه ) معترضة للمبادرة إلى التنزيه ، وقوله تعالى :( فلا أقسم بمواقع النجوم ، وإنه لقسمٌ لو تعلمون عظيم . إنه لقرآن كريم . في كتاب مكنون ) ففي قوله : وإنه لقسم ـ لو تعلمون ـ عظيم ) اعتراضان : أحدهما : ( وإنه لقسم ..عظيم ) ، والآخر ( ( لو تعلمون ) أريد بهما تعظيم القسم وتفخيم أمره وهو تعظيم للمقسم عليه وتنويه برفعة شأنه ....ومنه في الشعر قول عوف بن محلّم : ....
إن الثمانين ـ وبلغتها ـ *** قد أحوجت سمعي إلى ترجمان ...فقوله ــ وبلغتها ـ جملة دعائية أريد بها تعطيف قلب الممدوح....
6- الاحتراس: وهو أن يؤتى في كلام يُوهمُ خلاف المقصود بما يدفع الهم نحو كقول الشاعر طرفة بن العبد :.....
فسقى دِيَارَكِ غيرَ مُفْسِدها ـ *** صوبُ الرَّبيع وديمةٌ تَهْمِي ......لما كان دوام المطر مما يسبب الخراب دفع هذا الوهم بقوله ( غيرَ مفسدها
7- التتميم : وهو أن يؤتى في كلام لا يوهم خلاف المقصود بفضلة كمفعول أو حال أو تمييز ، أو جار ومجرور ، لفائدة : كالمبالغة في المدح .. في قوله تعالى : ( ويطْعِمُونَ الطعام على حبه مسكينا ويتيما واسيرا ) .. فإن إطعام الطعام على حبهم له وحاجتهم إليه ، أدل على الكرم مما لو كان عن غنى ....وكقوله تعالى :( فَخَرَّ عليهم السَّقفُ من فوقهم ) والسقف لا يخر إلا من فوق ، ولكنه دلَّ بقوله ( من فوقهم ) على الإحاطة والشمول ، وكقوله تعالى :( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) فإن القلب لا يكون إلا في الجوف ، ولكن في ذكر الجوف مفردا تأكيدا لنفي وجود القلبين ، لأن كل قلب يحتاج إلى جوف فمتى ثبت أن الجوف واحد ثبت أن القلب لا يكون إلا واحدا فتنبه إلى هذا الإطناب البديع المعجز حتى لايلتبس عليك بالحشو ....
========================
أرجو أن يستفيد القاريء الكريم يهذا البحث المتواضع وشكرا لكم جميعا
( وقل رب زدني علما )
والحمد لله رب العالمين
تعليقات