مراتب البلاغة أعلاها ( الإعجاز القرآني )
سبحان الله تعالى وبحمده سبحان الله العظيم : أنزل القرآن على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين ؛ فجاءت آياته أعلى من كلام العرب الذين
نزل فيهم القرآن واصطفى الله منهم نبيهم لرسالته الخاتمة لجميع خلقه ، فكان الأعلى في معناه وبيانه وكلامه .....
ثم يتدرج كلام اللغة العربية إلى أقل منه بيانا وبلاغة أو ما يرقب إليه من كَلِم محمد وسنته الهادية بتوضيح ما تضمنته الآيات الكريمة بوحي من الله سبحانه وتعالى ، وكان عليه الصلاة والسلام أميا لكن الله علمه البيان ،.... ثم تأتي المرتبة الثالثة للعلماء والشعراء ورجال الأدب المتمرسين في الشعر والكتابة العربية الفصيحة البليغة × ثم من دونهم مراتب كثيرة تتفاوت فيها أقدار البلغاء من الكتاب الدارسين كما يَفْضُلُ النَّسج النسْجَ في الجودة والتميز ....وكما تتفوق الصياغةُ على الصياغة بينهم .....وحدُّ البلاغة أن تجعل لكل مقامٍ مقالا ؛ فتوجزُ حيثُ يحسُن الإيجاز ، وتُطْنِبُ حيثُ يجملُ الإطناب ، وتؤكدُ في موضع التوكيد ، وتقدم أو تؤخرُ إذا رأيت ذلك أنسب لقولك ،وتخاطب الذّكِيّ بغير ما تخاطب به الغَبِيّ، وهذا ما يسمى في البلاغة الراقية مطابقة الكلام لمقتضى الحال ؛ ولنضرب مثالا على ذلك : إذا أردتَ أن تنفيَ عن نفسك فِعْلَ شيءٍ من غير أن تشير إلى أن غيرك فعلهُ قلتَ :
: ( ما فعَلْتُ)...
وإن أردتَ أن تشير إلى أن غيرك فعله ؛ قلت : ما أنا فعلتُ ؛ فأنت قد جعلت لكل معنى من هذين مقالا على وِفْقِهِ ، وطابقت بقولك مقتضى الحال .....
ومثال آخر للتوضيح البياني في دقة المعنى أنك إذا قلتَ : ( على اللهِ أعتمد ) فقد أردت أن تقصر اعتمادك على الله وحده ، ولو قلت : أعتمد على الله لم يكن في قولك ما يدل على قصر اعتمادك على الله ، ويدرس ذلك في فروع البلاغة ( فرع المعاني )...............
===============================================================
ويعتبر تدبر القرآن وآياته المعجزة وسيلة لرقي الأسلوب عند المتكلم والكاتب والأديب والشاعر والناقد في الترقي لمراتب البلاغة للقرب من أسلوب الحكيم العليم في البلاغة العربية ... ومن هنا أحب أن أختصر الحديث بتحليل مبسط عن بعض آيات القرآن الكريم بهذه الآيات المختارة من تفسير العلماء والأساتذة المتخصصين في علم المعاني في البلاغة العربية بتصرف لا يخل ، واختصار دون إطناب يمل ....
قال تعالى في الرد على من أنكر البعث : ( وضرب لنا مثلا ونَسيَ خلقَه ، قال من يحي العظام وهي رميم . قلْ يحييها الذي أنشأها أول مرةٍ وهو بكل خَلْقٍ عليم . الذي جعل لكم من الشَّجَرِ الأخضرِ نارا فإذا أنتم منه توقدون . أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلُقَ مثلهم بَلَى وهو الخلاَّقُ العليم . إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كنْ فيكون . فسبحان الذي بيده ملكوت كلِّ شيءٍ وإليه تُرجعون .) من سورة يس من أول الآية 78 وما بعدها .....
وفيها الردَّ على من أنكر البعث في أبلغ صورة وأوفى حُجَّة بدرجة إعجازية تقطع على المنكرين سبيل الدفاع عن رأيهم الباطل وحجتهم الدَّاحضَة ، فإن القادر على بدء الخلق لايعجزهُ أن يعيده ، لأن الإعادة ليست بأصعبِ عند ذوي العقول الواعية من الابتداء ...وقد زاد الله هذه الحجة قوة ووضوحا فذكرهم بقدرته على إخراج النار مما ينبت من الماء ، والنار والماء صنوان ، فمن قدر على ذلك فليس بمنكر عليه أن يعيد ما أفناه ، ثُم قَوّى الحجة وزادها شرحا حتي الإعجاز حين نبه على إعادة الناس بعد الموت ليست أصعب من خلق السموات والأرض ابتداء ، وفي ذلك يقول الله تعالى في آية أخرى : ( لَخَلْقُ السموات والأرضِ أكبرمن خلق الناس ، لكن أكثر الناس لا يعلمون .) ...ثم أثبت سبحانه وتعالى لنفسه القدرة المطلقة والإرادة النافذة في قوله تعالى : ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كنْ فيكون .) فدل على أن كل المخلوقات مِلْكَهُ وأن مصير الناس إليه بقوله : ( فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيءٍ وإليه ترجعون ) فما ترك سبحانه من زيادة لمستزيد ، ولا حجة لمعاندٍِ مكابر، وهذا هو الإعجاز البالغ الذي لا تصل إليه قدرة البشر ،تأكيدا لقوله سبحانه في الآية :( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .)
=================================================================
وقد أجاد أحد الكتاب الدرسين للغة العربية في مدحه لأمير من الأمراء بأنه كريم يرى العطاء فرضاً ويتجاوز عما وجب له من الحقوق ، ويقبل عُذرَ المعتذر ، ويرى ما قلَّ من الشُّكر كثيرا في جنب عطائه ، ثم يدعو له أن تكون نِعَمَهُ دائمةً لأوليائه تزيد على شكرهم ، وتربو فوق ثنائهم ، وأن تكون نعم الله تعالى عليه فوق ما يؤملون له ويرجون عنده ...
قال هذا المعنى بالبلاغة التالية وفيها العناصر الثلاثة لروعتها : الوضوح والقوة والجمال .في عبارة متخيرةٍ ونسَقٍ جميل متكمن من صناعته في الثأير بها على من يمدحه ...:
( مِثْلُكَ أوْجَبَ حقًّا لا يجب عليهِ ، وسمح بحقٍ وجبَ له ، وقَبلَ واضحَ العُذر ، واسكثرَ قليل الشكرِ ، لا زالت أياديك فوق شكرِ أوليئك ، ونعمة الله فوق آمالهم فيكَ ..) .......،،،، ومن جوامع كَلِم النبي صلى الله عليه وسلم :( كفى بالسلامة داءً )......
والمعنى : أن الرجل إذا طالت به الحياة ، وامتد العمر ، كان طول حياته سببا في كبره ، وضعف صحته ، وعجزه عن القيام بأموره ، وقد يتمدُّ به ذلك حتى يصير عاجزا عن القيام والقعود ، وتناول الطعام والشراب ، والاستماع بما يقع تحت بصره من دواعي السرور والفرح .؛ أفليس هذا داءٌ لا دواءَ له إلا أن يستريح الجسم الفاني من متاعب الحياة ويذهب إلى ربه سبحانه وتعالى .)
======================وقال بعض الحكماء :( البلاغة قول يسير يشتمل على معنى خطير ) وقال آخر :البلاغة علمٌ كثير في قول يسير .) وقد عبر عن هذا المعنى في الشعر أول من نطق به في وضوح وقوة وجمال .. هو الشاعر النَّمِرُ بن تَوْلَب من العصر الجاهلي إذ يقول :
يَوَدُّ الفَتَى طُولَ السَّلامة والغِنى **** فكيفَ ترى طول السَّلامة يَفْعَلُ ؟!!
يُرَدُّالفتى بعدَ اعتدالٍ وصحةٍ ***** يَنُوءُ إذْ رَامَ القيامَ وَ يُحْمَلُ
============================================================
المصدر : كتاب المعاني ... دار المعارف المصرية المنشور عام 1972 م
المؤلفون للكتاب : الأساتذة :1- إبراهيم مصطفى ..2- محمد عطية الأبراشي ..3- محمود السيد عبد اللطيف ..4- عبد المجيد الشافعي ..5- محمد أحمد برانق .....
وراجعه كل من : الدكتور طه حسين وزير المعارف سابقا ، والأستاذ أحمد أمين ، والأستاذ /محمد أحمد جاد المولى .
وقمت بالتصرف والإيجاز لموضوع المساهمة المفيدة بعد أن درسته في المرحلة الثانوية عام 1972 لطلابي
وفوق كل ذي علم عليم ..
تعليقات