تأملات في القرآن عن نشأة الإنسان :

إذا تيقن الإنسان العاقل بما منحه الله من نوره وغرس فيه من فطرة تهتدي إلى الحق سبحانه وتعالى بالتأمل الصافي والفهم الواثق لآيات الله في كلامه الكامل بلغته العربية التي ينطق بها ويعي
مدلولات ألفاظها وإيحاءاتها البيانية الشافية , وبنظرته الفاحصة المتأنية لخلق الكون وآياته العظام .
وأنصت بأصغاء لقوله تعالى :
(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )(11) الشورى
ثم قوله : ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) طه
استواء قدرة وجلال وعظمة توازي ألوهيته سبحانه وتعالى ,
( أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ) (54) فصلت
علما وقدرة وعزة
أي أحاط علمه بكل شيء . قاله السدي .
وقال الكلبي : أحاطت قدرته بكل شيء .
وقال الخطابي : الذي أحاطت قدرته بجميع خلقه.
أي المخلوقات كلها تحت قدرته وقبضته وهو المتصرف فيها بحكمته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.( ابن كثير
(يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) (2) سبأ
(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ...) الزمر آيه 67
إذا استوعب بعمق كل هذا المعاني العالية لله العلي القدير وتأمل نشأته كمخلوق ضعيف ليس إلا
حلقة في فلاة , أو كذرة من رماد وسط هذا الخضم الشاسع من كون الله العريض . ثم يتجرأ على
الله , ولا يأتمر بأوامره , وينتهي عن نواهيه . يخالفه ويخرج عن طاعته . ولا ينظر إلى نشأته .
عُدْ إلى ربك أيها المسكين , وتأمل في خلقك , وحَسن خُلقَك مع خالقك حتى تنعم برضاه وتسعد بنور محياه وتستظل بظله يوم لا ظل إلا ظله .

(يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) (16)غافر

تامل كيف كانت نشأتك في رحم أمك :
(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (6) آل عمران
(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ )(62) الواقعة

وكانت تلك النشأة من الماء المهين وهو ( المني ) ( والبويضة ) المتلاقحان في الرحم كما قال تعالى
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى) (47) النجم
وأن هذا الخلق العظيم والتصوير البديع أصله من الماء أصل الحياة لكل شيء كما قال تعالى :
(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ )(30) الأنبياء
وخلقك من (تراب ) كما ذكر سبحانه وتعالى في قوله :
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ (الروم :20)

وقوله جل شأنه :
( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب .)
واختلاط الماء بالتراب ينشأ منه ( الطين ) الذي خلقك منه أيضا كما جاء في قوله تعالى :
( وبدأ خلق الإنسان من طين ) ( من سلالة من طين )
ثم تخمر هذا الطين كالعجين فأصبح ( لازبا ) وهو ما أطلق عليه القرآن ( حمأ مسنون ) في قوله تعالى :
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) الحجر
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28)الحجر

فلما جف هذا الحمأ المتخمر وأصبح كالصلصال شكله المولى الخالق على الصورة التي صور بها آدم عليه السلام بقدرته وعظمته فصار كالفخار :
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15)الرحمن
ثم منحه الله روحه من عنده ليحيا قال تعالى :
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)الحجر
ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين:
وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (غافر -64)
تأمل أيها الإنسان الغافل كيف بدأ خلقك وينتهي عمرك . قال تعالى :
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( العنكبوت-20)
فإنك مهما عمرت وطال أجلك على هذه الأرض الفانية التي بسطها الله لك :
ُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا(هود-61)
وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً (لقمان:20).
لتعبده فيها وتعمرها بالخير عائد إليه.
كما بدأ خلقك بنفس المراحل من النهاية إلى البدايه الأولى قال تعالى :
:(مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) (طه:55)
أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) مريم

تذكر أيها الإنسان تعود مراحل حياتك عند مماتك من آخر ما خلق فيك إلى أول ما نشأت منه بالترتيب العكسي بقدرة القادر العليم :
فتبدأ نهايتك بخروج الروح التي هي آخر ما منحك الله لتدب فيك الحياة
ثم يتصلب جسدك كالفخار الذي كان يسبق نفخة الروح في جسدك .
ثم يبدأ في الليونة واللزوجة ( لازب ) كالطين اللازب الذي يسبق الفخار الجامد وهو (الصلصال )
ثم يتعفن هذا الجسد ويتحلل . ( الحمأ المسنون )
ثم تعود إلى التربة الطينية التي كانت مكونة من الماء والطين الذي نشأت منه
ثم تحلل العظام وتصير ترابا .
ثم يتبخر منها الماء أصل النشأة الأولى التي أوجدك منها الخالق العليم القدير

وتبقى منك أيها المخلوق ( السلالة ) وهي نهاية عقدة في آخر العمود الفقري لاتتحلل ولا تتكسر .
إلى أن يأتي يوم النشور :
ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( العنكبوت-20)
ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ (الروم-25)
(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُون)(يس:51).
وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا ، لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (نوح: 15-20)
ويكون الخلق الآخر ليلائم الحياة الآخرة الأبدية التي تننظر المؤمنين وغير المؤمنين بما فيها من ثواب وعقاب . في جنة عرضها السموات والأرض , أو في نار ـ والعياذ بالله ـ وقودها الناس والحجارة .
فهل تأملت أخي في هذا التكوين البديع ؟!!
قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (طه:50).
هل عرفت حجمك في كون الله العظيم فوفيت لخالقك حقه ؟!!
اللهم اجعلنا من الذاكرين لنعم الله علينا . واجعلنا من الشاكرين . آمين
.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأوامر الإلهية في الآيات القرآنية

البلاغة والمجاز

الكلام ، والقول والحديث ... ( فروق لغوية )