بين المناظرة والمجادلة
المناظرة والمجادلة
===========
مفهوم المناظرة عند اللغويين أن يتخاطب شخصان حول قضية ما ، في حوار نزاعي في حال مواجهة بين الطرفين أي خطاب وجها لوجه لإقناع الآخر بالرأي أو المعتقد أو البرنامج أو المنهج الذي يدعو إليه.
وفي هذا الجانب أو المقصد العام وهو الإقناع تشترك مع المجادلة ،
لكن الثانية ـ المجادلة ـ لا يشترط أن تكون خطاب مواجهة فقد يكون الحديث بين الطرفين في صحيفة يومية يسعى فيها المجادل إلى إيضاح وجهة نظره في أمر أو مسألة ما ، مدعما مواقفه بالحجج والبراهين والأدلة أو ما يسمى بالدعامات ؛
وبالتالي فالمجادلة أخص من المخاطبة أو المحاورة .
وقد وقعت مناظرة كان الخطاب فيها وجها لوجه بين الحاتمي وأبي الطيب المتنبي في ( مدينة السلام ) أو في ( مربض حميد ) على وجه التحديد ( كما يقول الدكتور : محمد العبد أستاذ الأدب في جامعة عين شمس بالقاهرة )
وفي حضور جماعة من شداة الأدب في مجلس أبي الطيب المتنبي ؛
ولكن المُطَّلِعَ على مادار في نص الكلام ومتن المناظرة والمحاورات يجد أن الحاتمي كان يرضي غروره بما يناسب هواه حتى يوضح للقاريء أنه كان الغالب لأبي الطيب في عقر داره وبين مريديه ليثبت أنه في الأدب واللغة أعلى من أبي الطيب المتنبي كعبا ومنزلة ، وهذا غير صحيح في واقع الإبداع والإنتاج الموروث عنهما .
وهذا يدل على أنها لم تكن مناظرة أو مواجهة بل كانت مجادلة من أسلوبها في الحوار اقرأ مثلا هذه العبارات الواردة على لسان الحاتمي :
- يا هذا ...............( استخفافا وهزؤا بالمتنبي )
ولو كان خطابه بتودد وتلطف لأظهر نفسه في المجلس بمظهر الند غير المغرض
وكان خطاب الحاتمي بعد أن بدأ المتنبي مناظره أو محاوره بقوله :
_ أي شيء بلغك؟
وفي افتتاح المناظرة بمثل هذا السؤال حدة ملحوظة ، إذ المعتاد في المخاطبات الأخرى غير النزاعية أن يأخذ السؤال صيغة أكثر تلطفا كان يقول مثلا :
- ماذا عندك؟ أو ماذا وراءك يا حاتمي ؟ أو نحو ذلك
وفي رد الحاتمي جفوة وخشونة عندما يقول :
- أنا بخير لولا ما جنيت على نفسي من قصدك ، وكلفت قدمي في المسير إلى مثلك)
وقد اتهم المتنبي في قوله:
في فيقلق من حديد لو رميت به = صروف الزمان لما دارت دوائره
أنه نقل المعنى عن الناجم حين قال :
مديح لو مدحت به الليالي = لما دارت عليّ لها صروف
والحقيقة أن المناظرة إذا دققنا فيها بين القصد والنية لوجدناها مجادلة بالضرورة ؛ فكل مناظرة مجادلة وليس كل مجادلة مناظرة ، فهما مشتركان في القصد لكن كلا منهما له نمط من الخطاب
لقصد إقامة الحجة بتقرير الاختلافات في المعتقد والمتجه والهدف .
وقد ذكر الأستاذ ( باسل حاتم )
في كتابه نموذج المجادلة من البلاغة العربية )
وذكر الدكتور محمد العبد في ( بحوث في تحليل الخطاب الإقناعي) المنشور عن دار الفكر العربي بالقاهرة سنة 1999 صفحة 43
أن الجدل قسمان أحدهما محمود والآخر مذموم
فالأول يقصد به الحق ويستعمل فيه الصدق
والثاني المذموم فيراد به المجادلة والغلبة وطلب الرياء والسمعة
وهذا ما أكده قدامة بن جعفر في نقد النثر طبعة بيروت 1982 صفحة 117
وقد يقول قائل إن المعروف عن المتنبي تكبره على الشعراء ، وأن الحاتمي أراد أن يثبت تفوقه عليه في الأدب والبيان والبلاغة في الحوار والتخاطب في مناظرة لكسر هذا الغرور ؛ ولكنه لم يتخذ أسلوب المناظرة المحمود فكانت مناظرته مع المتنبي من باب المجادلة المذمومة .
فالمناظرة إذا كان ينبغي لها أن تأخذ طريق المفارقة بينها وبين المجادلة بينهما ،
كان يمكن أن تؤكد حجج الحاتمي وأدلته بتوالي الخطوات المترابطة منطقيا؛ أن اللغة آلة الشعر وجماله البياني ؛ وهذا صحيح ، لكن لا يشترط في الشاعر أن يكون عالم لغة ، إنما يكفيه أن يكون عالما بكيفية الإبداع باللغة كما كان يفعل المتنبي في شعره حين قال :
أنام ملء جفوني عن شواردها = ويسهر الخلق جراها ويختصموا
أي في تأويل روعة بيانه واستخدامة للغة الحروف والكلمات ، وإن سؤال الحاتمي للمتنبي عن الفرق بين التقديس والقداس والقادس ، لم يكن بغرض المذاكرة كما قال السائل ، بل كان مهاترة كما قال المسؤول ، وليس في عجز المتنبي عن بيان الفارق مثلا ما يصلح في المناظرة أن يكون مقدمة لنتيجة الإقلال من شأنه في المناظرة الحوارية ، لكن عجز المتنبي عن خلع إعجابه بنفسه بحجج إنتاجه الشعري التي كان يقدمها لم تبقيه هو أيضا في دائرة المناظرة والجدل المحمود حين رد على الحاتمي بكثرة ذكره لأبي تمام بقوله :
- قد أكثرت من أبي تمام ، لاقدس الله أبا تمام وذويه !!
فرد عليه الحاتمي : ولا قدس السارق منه والواقع فيه )
وهنا انقلبت المناظرة إلى مجادلة مذمومة . وهو ما يسمى بالجدل العقيم .
تعليقات