موسيقى الشعر الحر ونظرة النقد الحديث
هذا المقال يدخل ضمن البحث في علم العروض من علوم اللغة العربية
=====================================
إن الصورة الموسيقية في تطور الفنو الشعري المعاصر ، وحركة التجديد فيه تبدو سريعة التغيير ومواكبة الأحداث
لكنها في الواقع متعمقة الجذور منذ العصر العباسي الزاهر فقد تزعم الشاعر أبو نواس هذا التجديد ؛ حيث أحدث أثرا عميقا في صورة القصيدة الموسيقية فبعد حياة مليئة باللهو والمجون وشرب الخمر التي كان يقول فيها :
معتقة صاغ المزاج لرأسها = أكاليل در لناظمها سلك
جرت حركات الدهر فوق سكونها = فذاب كذوب التبر أخلصه السبك
انتفض الشاعر في نهاية حياته ليلجأ إلى التجديد والمبادرة بطلب المغفرة والتوبة حيث يقول :
تعاظمني ذنبي فلما قرنته = بعفوك ربي كان عفوك أعظم
ألهننا ما أعظمك = مليك كل من ملك
لبيك قد لبيت لك = لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك = والليل لما أن حلك
ما خاب عبدٌ أمَّلك = أنت له حيث سلك
فكانت قصائده سريعة النبض في اختيار التفعيلات القصيرة للبحور الشعرية المشابهة لتفعيلة الشعر الحر السطرية حسب الدفقة الشعورية للأديب ، والمتضمنة الجوهر قبل الشكل في نبرة موسيقية متسارعة .
ثم ظهرت الموشحات الأندلسية بأدوراها وأفقالها وأوزان قوافيها المتعددة في أدب المغرب العربي في الأندلس
ولم يمر بعد ذلك وقت كبير حتى بدأ الشعر يتحلل في نهاية العقد الخامس من الوزن القديم ويتجه للتفعيلة وتنوع القافية في النص الواحد
حتى إن بعض الشعراء استغنوا عن القافية نهائيا في نماذج من إنتاجهم الأدبي مكتفين بالإيقاع الداخلي للقصيدة
وهنا أطلق النقاد على تلك النماذج ( حركة التجديد في الموسيقا في الشعر الحر ) المعتمد على التفعيلة الخليلية دون الخضوع للشكل الموروث في البحور العروضية المعروفة
ولقد عبر هذا اللون الناشيء عن تطلعات وطموحات العرب الحضارية وواقعهم الحديث ، وأخذ النقاد يحددون معالم هذا الفن بأسسه وعوامل ظهوره وتطوره ، لشيوعه في أقطار الوطن العربي وانتشار رواده من الشعراء والمعجبين به .
ولقد كانت الشاعر ( نازك الملائكة ) العراقية في ديوانها : شظايا ورماد
أول من علقت على اتجاهها لهذا الفن الجديد في الإنتاج الشعري بقولها في مقدمته :
( ألم تصدأ الموسيقي في النظم الشعري القديم لطول ملامستها الأقلام والشفاه ؟!، منذ سنين وسنين ............حتى مجتها )
نعم لقد ظل شعرنا العربي صورة لقول امريء القيس : قفا نبك .........فالأوزان لم تتغير ولا القوافي ، وحتى تغير المعاني فهو يسير ببطء شديد .
ورأت الحركة النقدية استجابة لحتمية روح التطور الزاحف أن تنتقل القوالب الموسيقية للقصيدة العربية والأغراض إلى مرحلة الالتحام مع قضايا المجتمع العربي السياسية والاجتماعية والفكرية .
فكان الاتجاه لتأسيس منهج نقدي يعتمد على أن :
* لجوء الفرد المعاصر لواقع المجتمع الصارم المعاصر بعيدا عن الأجواء (الرومانتكية ) متجها إلى جعل غاية الأدب جودة التعبير
وليس للتزويق الصناعي المتهاوي المضمون في أغلب الإنتاج القائم .
* اتجاه كل شاعر حديث لوضع خطة يثبت بها وجوده ومنهجه الفردي المتميز في معالجة قضايا أمته بصورة متطورة ومبتكرة
* الاستجابة لميل العصر الخروج عن الأفكار التقليدية المتسقة في شكل محافظ قديم ، إلى مظهر من التجديد يحمل أفضل المضامين المبتكرة
* مغايرة الشكل جاذبة لما يحويه المحتوى كرد فعل للملل من الأشكال القديمة في الموسيقا والقوافي المتحدة في أوزان محددة
وساعدت الحركات الثورية الوطنية التحررية دفع الشعراء إلى هذا اللون من الموسيقي المنسابة في دفعات شعورية في أسطر القصيدة التي تطول وتقصر مع الفكرة والمضمون من خلال لحن فريد جديد يعتمد على التفعيلة الواحدة
ويشير الدكتور محمد النويهي النقاد إلى أن ذوق المرء يرتبط بمدى نضجه ورقيه الثقافي تجاه قضايا عصره ومجتمعه ؛ فالبدائي والطفل يعجبهما الحاد الصارخ من الألوان والأصوات ، فإذا نضجا وارتقت ثقافتهما وتهذبا في حسهما وإداركهما لواقع الحياة صارا أميل إلى الخافت الهاديء السريع الإدراك المتطور ، ويربط ذلك بموسيقا الشعر الحر وبين المثقفين والتفكير في التغييرات الثورية للأوضاع الاجتماعية الفاسدة في الوطن العربي منذ أواخر الأربعينيات ، وبدأت هذه المغمة بطيئة وقليلة حتى ثورة 1952 في الإنتاج والشعراء
ثم انتشرت وأخذت أبعادا سريعة في مختلف الأقطار العربية وازدادات انطلاقا في مضمونها وشكلها مقلصة الأشكال القديمة للموسيقا
ويرى الدكتور لويس عوض ؛ أن ظهور هذا التطور الموسيقي يعود إلى اطلاع أدبائنا على الآداب الأوروبية وبخاصة الإنجليزية والفرنسية ؛ والتعمق في دراستهما ونشاط حركة الترجمة لإبداعات شكسبير وبيرون وإليوت وغيرهم من أدباء هذا المنهج الموسيقي.
أما الدكتور غنيمي هلال : أستاذ الأدب المقارن رحمه الله فقد أرجع هذه الحركة أنها جاءت صدى لما تمخض عنه المذهب الرمزي في الشعر العربي، وتخلصه من سلطان القافية المقيدة لانطلاقات الإبداع الشعري التجديدي في مضامين القصائد الجديدة مما كان نتيجة طبيعية استلزمتها احتياجات وثقافة وظروف المجتمع العربي المعاصر .
ثم أعود إلى ( نازك الملائكة ) التي بدأت أسلوب الموسيقا التفعيلي المتطور في قصائدها خروجا على طريقة الخليل بن أحمد في أوزان البحور الشعرية القديمة ؛ وقالت : ( إنها تعديل لتطور المعاني نظرا لاختلاف العصور وليست خروجا على جو الموسيقا الشعرية )
لكن الصحيح أن هناك فرقا كبيرا بين النهجين في اللجوء إلى السطر الشعري بدلا من البيت والقافية الموحدة في النص ؛ فنحن لو نظرنا إلى وزن بحر الكامل عند الخليل :
متفاعلن متفاعلن متفاعلن = متفاعلن متفاعلن متفاعلن
كما في قول الشاعر :
كفاي ترتعشان أين سكينتي = شفتاي تصطخبان أين هدوئي؟!!
فإننا نجد اختلافا كبيرا باستعمال نفس التفعيلة في سطر القصيدة الحرة الجديدة عند نازك في قصيدتها ( جدران وظلال ) حيث تقول:
وهناك في الأعماق شيء جامد
حجزت بلادته المساء عن النهار
شيء رهيب بارد
خلف الستار
يدعى جدار
أوَّاه لو هدم الجدار
فإن هذه الموسيقا في الواقع هي ثورة تحررية من عبودية الشطرين تتناسب مع ما يدفع بموهبة الشاعر لمعالجة مستجدات العصر الحديث ،
وهذا لاينفي وجود شعراء القصيدة التقليدية العربية ولا يقلل من جهدهم البناء بنظام القصيدة وموسيقاها القديمة .
=====================================
إن الصورة الموسيقية في تطور الفنو الشعري المعاصر ، وحركة التجديد فيه تبدو سريعة التغيير ومواكبة الأحداث
لكنها في الواقع متعمقة الجذور منذ العصر العباسي الزاهر فقد تزعم الشاعر أبو نواس هذا التجديد ؛ حيث أحدث أثرا عميقا في صورة القصيدة الموسيقية فبعد حياة مليئة باللهو والمجون وشرب الخمر التي كان يقول فيها :
معتقة صاغ المزاج لرأسها = أكاليل در لناظمها سلك
جرت حركات الدهر فوق سكونها = فذاب كذوب التبر أخلصه السبك
انتفض الشاعر في نهاية حياته ليلجأ إلى التجديد والمبادرة بطلب المغفرة والتوبة حيث يقول :
تعاظمني ذنبي فلما قرنته = بعفوك ربي كان عفوك أعظم
ألهننا ما أعظمك = مليك كل من ملك
لبيك قد لبيت لك = لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك = والليل لما أن حلك
ما خاب عبدٌ أمَّلك = أنت له حيث سلك
فكانت قصائده سريعة النبض في اختيار التفعيلات القصيرة للبحور الشعرية المشابهة لتفعيلة الشعر الحر السطرية حسب الدفقة الشعورية للأديب ، والمتضمنة الجوهر قبل الشكل في نبرة موسيقية متسارعة .
ثم ظهرت الموشحات الأندلسية بأدوراها وأفقالها وأوزان قوافيها المتعددة في أدب المغرب العربي في الأندلس
ولم يمر بعد ذلك وقت كبير حتى بدأ الشعر يتحلل في نهاية العقد الخامس من الوزن القديم ويتجه للتفعيلة وتنوع القافية في النص الواحد
حتى إن بعض الشعراء استغنوا عن القافية نهائيا في نماذج من إنتاجهم الأدبي مكتفين بالإيقاع الداخلي للقصيدة
وهنا أطلق النقاد على تلك النماذج ( حركة التجديد في الموسيقا في الشعر الحر ) المعتمد على التفعيلة الخليلية دون الخضوع للشكل الموروث في البحور العروضية المعروفة
ولقد عبر هذا اللون الناشيء عن تطلعات وطموحات العرب الحضارية وواقعهم الحديث ، وأخذ النقاد يحددون معالم هذا الفن بأسسه وعوامل ظهوره وتطوره ، لشيوعه في أقطار الوطن العربي وانتشار رواده من الشعراء والمعجبين به .
ولقد كانت الشاعر ( نازك الملائكة ) العراقية في ديوانها : شظايا ورماد
أول من علقت على اتجاهها لهذا الفن الجديد في الإنتاج الشعري بقولها في مقدمته :
( ألم تصدأ الموسيقي في النظم الشعري القديم لطول ملامستها الأقلام والشفاه ؟!، منذ سنين وسنين ............حتى مجتها )
نعم لقد ظل شعرنا العربي صورة لقول امريء القيس : قفا نبك .........فالأوزان لم تتغير ولا القوافي ، وحتى تغير المعاني فهو يسير ببطء شديد .
ورأت الحركة النقدية استجابة لحتمية روح التطور الزاحف أن تنتقل القوالب الموسيقية للقصيدة العربية والأغراض إلى مرحلة الالتحام مع قضايا المجتمع العربي السياسية والاجتماعية والفكرية .
فكان الاتجاه لتأسيس منهج نقدي يعتمد على أن :
* لجوء الفرد المعاصر لواقع المجتمع الصارم المعاصر بعيدا عن الأجواء (الرومانتكية ) متجها إلى جعل غاية الأدب جودة التعبير
وليس للتزويق الصناعي المتهاوي المضمون في أغلب الإنتاج القائم .
* اتجاه كل شاعر حديث لوضع خطة يثبت بها وجوده ومنهجه الفردي المتميز في معالجة قضايا أمته بصورة متطورة ومبتكرة
* الاستجابة لميل العصر الخروج عن الأفكار التقليدية المتسقة في شكل محافظ قديم ، إلى مظهر من التجديد يحمل أفضل المضامين المبتكرة
* مغايرة الشكل جاذبة لما يحويه المحتوى كرد فعل للملل من الأشكال القديمة في الموسيقا والقوافي المتحدة في أوزان محددة
وساعدت الحركات الثورية الوطنية التحررية دفع الشعراء إلى هذا اللون من الموسيقي المنسابة في دفعات شعورية في أسطر القصيدة التي تطول وتقصر مع الفكرة والمضمون من خلال لحن فريد جديد يعتمد على التفعيلة الواحدة
ويشير الدكتور محمد النويهي النقاد إلى أن ذوق المرء يرتبط بمدى نضجه ورقيه الثقافي تجاه قضايا عصره ومجتمعه ؛ فالبدائي والطفل يعجبهما الحاد الصارخ من الألوان والأصوات ، فإذا نضجا وارتقت ثقافتهما وتهذبا في حسهما وإداركهما لواقع الحياة صارا أميل إلى الخافت الهاديء السريع الإدراك المتطور ، ويربط ذلك بموسيقا الشعر الحر وبين المثقفين والتفكير في التغييرات الثورية للأوضاع الاجتماعية الفاسدة في الوطن العربي منذ أواخر الأربعينيات ، وبدأت هذه المغمة بطيئة وقليلة حتى ثورة 1952 في الإنتاج والشعراء
ثم انتشرت وأخذت أبعادا سريعة في مختلف الأقطار العربية وازدادات انطلاقا في مضمونها وشكلها مقلصة الأشكال القديمة للموسيقا
ويرى الدكتور لويس عوض ؛ أن ظهور هذا التطور الموسيقي يعود إلى اطلاع أدبائنا على الآداب الأوروبية وبخاصة الإنجليزية والفرنسية ؛ والتعمق في دراستهما ونشاط حركة الترجمة لإبداعات شكسبير وبيرون وإليوت وغيرهم من أدباء هذا المنهج الموسيقي.
أما الدكتور غنيمي هلال : أستاذ الأدب المقارن رحمه الله فقد أرجع هذه الحركة أنها جاءت صدى لما تمخض عنه المذهب الرمزي في الشعر العربي، وتخلصه من سلطان القافية المقيدة لانطلاقات الإبداع الشعري التجديدي في مضامين القصائد الجديدة مما كان نتيجة طبيعية استلزمتها احتياجات وثقافة وظروف المجتمع العربي المعاصر .
ثم أعود إلى ( نازك الملائكة ) التي بدأت أسلوب الموسيقا التفعيلي المتطور في قصائدها خروجا على طريقة الخليل بن أحمد في أوزان البحور الشعرية القديمة ؛ وقالت : ( إنها تعديل لتطور المعاني نظرا لاختلاف العصور وليست خروجا على جو الموسيقا الشعرية )
لكن الصحيح أن هناك فرقا كبيرا بين النهجين في اللجوء إلى السطر الشعري بدلا من البيت والقافية الموحدة في النص ؛ فنحن لو نظرنا إلى وزن بحر الكامل عند الخليل :
متفاعلن متفاعلن متفاعلن = متفاعلن متفاعلن متفاعلن
كما في قول الشاعر :
كفاي ترتعشان أين سكينتي = شفتاي تصطخبان أين هدوئي؟!!
فإننا نجد اختلافا كبيرا باستعمال نفس التفعيلة في سطر القصيدة الحرة الجديدة عند نازك في قصيدتها ( جدران وظلال ) حيث تقول:
وهناك في الأعماق شيء جامد
حجزت بلادته المساء عن النهار
شيء رهيب بارد
خلف الستار
يدعى جدار
أوَّاه لو هدم الجدار
فإن هذه الموسيقا في الواقع هي ثورة تحررية من عبودية الشطرين تتناسب مع ما يدفع بموهبة الشاعر لمعالجة مستجدات العصر الحديث ،
وهذا لاينفي وجود شعراء القصيدة التقليدية العربية ولا يقلل من جهدهم البناء بنظام القصيدة وموسيقاها القديمة .
تعليقات