الحلقة الرابعة مع الجرجاني ( الأخيرة )

27- ويقرر عبدالقاهر أن ذلك هو السر في ذم النقاد لمن حمله الجرى وراء السجع والتجنيس و على الإساءة إلى المعنى , وإدخال الخلل عليه من أجلهما , وعلى أن يتعسف في الإستعارة بسببها كالذي صنع أبو تمام في قوله :
سيف الإمام الذي سمته هيبته = لما تخرم أهل الأرض مخترما
قرت بقران عين الدين فانشترت = بالأشترين عيون الشرك فاصطلما
وقوله :
ذهبت بمذهبه السماحة فالتوت = فيه العقول أمذهب أم مذهب ؟!
ومعنى ذلك أنه لافضل للسجع , ولا للتجنيس , ولا اعتداد بهما إلا مع الوفاء بحق المعنى , والإتيان به على الصورة التي ينبغي أن يكون عليها , وإلا إذا كان لهما نصيب في خدمة المعنى , وجمال صورته , فالمعنى إذن هو الذي يضفي الجمال عليهما إذا اشتملا على جمال , وإذا نظرت إلى تجنيس القائل حتى نجا من خوفه , وما نجا , وقول المحدث :
ناظراه فيما جنى ناظراه = أودعاني أمت بما أودعاني
فاستحسنته , لم تشك بحال أن ذلك لم يكن لأمر يرجع إلى اللفظ , ولكن لأنك رأيت الفائدة ضعفت في الأول , وقويت في الثاني , وذلك لأنك رأيت أبا تمام لم يزدك بمذهب ومذهب على أن أسمعك حروفا مكررة , لاتجد لها فائدة إن وجدت إلا متكلفة متمحلة . ورأيت الآخر قد أعاد عليك اللفظة كأنه يخدعك عن الفائدة , وقد أعطاكها , ويوهمك أنه لم يزدك , وقد أحسن الزيادة ووفاها , ولهذه النكتة كان التجنيس , وخصوصا المستوفي منه نجا ونجا من حلي الشعر .
28- وينعي عبد القاهر على المتأخرين الذين جروا وراء البديع وتكلفوه , فطمسوا المعاني وأفسدوها ؛ من أجل فنونه التي صارت لهم غايات , وأهدافا . فقادوا إليها المعاني وأخضعوها لها , ولم يكن ذلك سبيل العارفين بجواهر الكلام الذين لم يكونوا يعرجون على البديع إلا بعد الثقة بسلامة المعنى , وصحته , وإلا حيث يأمنون جناية منه عليه .
فهذا الجاحظ يقول في كتابه ( الحيوان ) : جنبك الله الشبهة , وعصمك من الحيرة , وجعل بينك وبين المعرفة سببا , وبين الصدق نسبا , وحبب إليك التثبيت , وزين في عينيك الإنصاف , وأذاقك حلاوة التقوى , وأشعر قلبك عز الحق , وأودع صدرك برد اليقين , وطرد عنك ذل اليأس , وعرفك ما في الباطل من الذلة , وما في الجهل من القلة .) فقد ترك أولا أن يوافق بين الشبهة والحيرة في الإعراب , ولم يرد أن يقرن الخلاف إلى الإنصاف , ويشفع الحق بالصدق , ولم يُعْنَ بأن يطلب اليأس قرينة تصل جناحه , وشيئا يكون رديفا له , لأنه رأى التوفيق بين المعاني أحق , والموازنة فيها أحسن , ورأى العناية بها حتى تكون إخوة من أب وأم . ويزرها على ذلك تتفق بالوداد على حسب اتفاقها بالميلاد أولى من أن يدعها لنصرة السجع , وطلب الوزن أولاد علة ؛ عسىألا يوجد بينها وفاق إلا في الظواهر , فأما أن يتعدى ذلك إلى الضمائر , ويخلص إلى العقائد والسرائر ففي الأقل النادر ـ وعلى الجملة كما يقول عبد القاهر ـ فإنك لاتجد تجنيسا مقبولا , ولا سجعا حتى يكون المعنى هو الذي طلبه , واستدعاه , وساق نحوه الكلمات , وحتى تجده لا تبتغي به بدلا , ومن هنا كان أحلى تجنيس تسمعه , وأعلاه وأحقه بالحسن وأولاه , ما وقع من غير قصد المتكلم إلى اجتلابه , وتأهب لطلبه , أو ما هو لحسن ملاءمته وإن كان مطلوبا بهذه المنزلة , وبتلك الصورة إن الألفاظ وأوضاعها على اللسان يجب أن تكون رهنا بنظم المعاني في النفس , والمعاني هي التي يجب أن تستدعي الألفاظ وأوضاعها .
29- ومن أجل ذلك يرى عبدالقاهر أن من الخطأ أن يقسم الأمر في تقديم الألفاظ وتأخيرها في النظم قسمين ؛ فيجعل مفيدا في بعض الكلام , وغير مفيد في بعض , وأن يعلل تارة بالعناية بالمقدم , وأخرى بأنه توسعة على الشاعر والكاتب , حتى تطرد لهذا قوافيه , ولذلك سجعه , إن كل نظم للألفاظ في صورة لابد أن يستدعيه قصد الدلالة على صورة معنوية خاصة , أما أن تنظم الألفاظ ليكون نظمها مفيدا تارة , ولمجرد التصرف في اللفظ من غير معنى تارة أخرى , فذلك مما ينبغي أن يرغب عن القول به , انظر مثلا إلى الاستفهام بالهمزة , فأنت إذا بدأت بالفعل فقلت : أفعلت ؟. كان الشك في الفعل , وكان غرضك من استفهامك أن تعلم وجوده , وإذا قلت : أأنت فعلت ؟ فبدأت بالاسم كان الشك في الفاعل , وكان التردد فيه , ومثال ذلكأنك تقول : أبنيت الدار التي كنت على أن تبنيها ؟ أقلت الشعر الذي كان في نفسك أن تقوله ؟ أفرغت من الكتاب الذي تكتبه ؟ ؛ تبدأ في هذا ونحوه بالفعل لأن السؤال عن الفعل نفسه والشك فيه , لأنك في جميع ذلك متردد في وجود الفعل , وانتفائه , مجوز أن يكون قد كان وأن يكون , لم يكن . وتقول : أأنت بنيت هذه الدار ؟ أأ،ت قلت هذا الشعر ؟ أأنت كتبت هذا الكتاب ؟ فتبدأ في ذلك كله بالاسم لأنك لم تشك في الفعل أنه كان . كيف وقد أشرت إلى الدار مبنية , والشعر مقولا , والكتاب مكتوبا , وإنما شككت في الفاعل من هو ؟ ففرق بين تقديم الفعل هناك , وتقديم الاسم هنا , ولا يخفى فساد أحدهما في موضع الآخر , فلو قلت : أأنت بنيت الدار التي كنت على أن تبنيها ؟ أأنت قلت الشعر الذي كان في نفسك أن تقوله ؟ أأنت فرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه ؟ خرجت من كلام الناس , وكذلك لو قلت : أبنيت الدار هذه ؟ أقلت هذا الشعر ؟ أكتبت هذا الكتاب ؟ قلت ما ليس بقول , ذاك لفساد أن تقول في الشيء المشاهد الذي هو نصب عينيك أموجود أم لا ؟
30- وجملة القول أن نظم المعاني في النفس هو أساس نظم الألفاظ على اللسان , ومادامت المعاني هي المستدعية للألفاظ ونظمها على اللسان ؛ كانت كل فضيلة في النظم أساسها نظم المعنى . أو بعبارة أدق ؛ صورة المعنى في النفس , وإذا كان جمال الصورة أو قبحها في المرآة مردهما في الحقيقة إلى الصورة الحقيقية التي انعكست في المرآة ؛ فإن الأمر هو كذلك بالنسبة إلى الكلام عند عبد القاهر . وفي مثل ذلك يقول صاحب فلسفة اللغة ( المعنى الواضح وليد معنى واضح , وإن المعنى الغامض لا يعبر عنه إلا بمعنى غامض فالرديء من الألفاظ يعكس رديئا من المعاني والوحشي من الألفاظ يعكس وحشيا من المعاني , وإذا كان الأمر كذلك فليس في اللفظ من حيث هو لفظ جمال ولا فضيلة , ولكن باعتباره مشيرا إلى المعنى الذي تشكل هو مثاله و ومثل من يعول على اللفظ ويهمل المعنى كما يقول عبدالقاهر كمثل من يرى خيال الشيء فيحسبه الشيء ذاته .
31- ويقول عبدالقاهر كذلك إن الفصاحة عبارة عن مزية للمتكلم دون واضع اللغة و والمتكلم بلغة ما لا يكون متكلما بها حتى يستعمل أوضاعها على ما وضعت عليه , وهو لا يستطيع أن يزيد من عند نفسه في اللفظ شيئا ليس هو في اللغة , ولا أن يحدث في اللفظ وصفا جديدا حتى تنسب الفصاحة إلى ألفاظ كلامه ز
32- وإذا كانت الألفاظ لا فضل لها في ذاتها , وإنما يكون لها الفضل من حيث دلالتها علىا المعاني ـ وإذا كان الفكر لا يتعلق بمعاني الألفاظ أنفسها , وإنما يتعلق بالعلاقات بين معانيها ـ إذا كان الأمر كذلك فلا عبرة بالألفاظ مفردة , وإنما العبرة بها منظومة , وكل ما يمكن أن يقال في تفاضل الألفاظ المفردة أن تكون هذه مألوفة الاستعمال , وتلك غريبة وحشية , أو أن تكون حروف هذه أخف وامتزاجها احسن , وعما يكد اللسان أبعد , وتلك أمور هينة لا يعتد بها إلى جانب ما يعتد به من مكان الكلمات في النظم والتلاؤم بين معانيها , فالنظم هو مناط التفاضل المعتد به بين الألفاظ من حيث ما يطرأ به من العلاقات بين معانيها وليس مناطه انفراد الكلمات , وإنك لترى الكلمة تروقك وتؤنسك ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر , كلفظ الأخرع في بيت الحماسة :
تلفت نحو الحي حتى وجدتني = وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا
وبيت البحتري :
وإني وإن بلغتني شرف العلا = وأعتقت من رق المطامع خدعي
فإن لها في هذين المكانين ما لا يخفى من الحسن , ثم إنك تتأملها في بيت هناك لأبي تمام :
يا دهر فَّوِم من أخدعيك فقد = أضججت هذا الأنام من خرقك
فتجد لها من الثقل على النفس , ومن التنغيص والتكدير أضعاف ما وجدت هناك من الروح والخفة والإيناس والبهجة , ومن أعجب ذلك لفظة ( الشيء ) فإنك تراها مقبولة حسنة في موضع , وضعيفة مستكرهة في موضع , وإن أردت أن تعرف ذلك ؛ فانظر إلى قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي :
ومن ماليء عينيه من شيء غيره = غذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
وإلى قول ابي حية:
إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة = تقضاه شيء لا يمل التقاضيا
فإنك تعرف حسنها ومكانها من القبول
ثم انظر إليها في بيت المتنبي ك
لو الفلك الدوار أبغضت سعيه = لعوقه شيء عن الدوران
فإنك تراها تقل وتضؤل بقدر ما نبلت وشرفت فيما تقدم و فلو كانت الكلمة إذا حسنت حسنت من حيث هي لفظ وإذا استحقت المزية والشرف استحقت ذلك في ذاتها وعلى انفرادها دون أن يكون السبب في ذلك حالها مع أخواتها المجاورة لها في النظم , لما اختلف بها الحال ولكانت إنما تحسن أبدا أولا تحسن أبدا , وإذا كان النظم القائم على العلاقات المعنوية هو مناط التفاضل ؛ كان ذلك دليلا على أنه لا قيمة للفظ من حيث هو لفظ ونطق لسان .
33- ويقول عبد القاهر إن هناك فرقا بين قولنا : حروف منظومة وكلم منظوم , فأما نظم حروف الكلمة , فهو تواليها في النطق , وذلك من عمل واضع اللغة , ولا علاقة بين هذه الحروف المنظومة للكلمة , وبين معناها ؛ إذ أن واضع اللغة لم يقتفِ في نظم حروف الكلمة رسما من العقل اقتضى أن يتحرى فيه ما تحراه , فلو أنه قد قال مثلا : ربض مكان ضرب , لما كان في ذلك ما يؤدي إلى فساد ـ وأما نظم الكلم ؛ فليس الأمر فيه كذلك لأنك تقتفي في نظمها آثار المعاني وترتيبها على حسب ترتيبها في النفس ؛ فهو إذن نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض , وليس هو النظم الذي معناه ضم الشيء إلى الشيء كيفما اتفق , وكذلك كان عندهم نظيرا للنسج والتأليف والصياغة والبناء والوشي والتحبير , وما أشبه ذلك مما يوجب اعتبار الأجزاء بعضها مع بعض حتى يكون لوضع كلٍ حيث وضع علة , تقتضي كونه هناك , وحتى لو وضع في مكان غيره لم يصلح . انتهى في 4ـ6ـ 1962

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأوامر الإلهية في الآيات القرآنية

البلاغة والمجاز

الكلام ، والقول والحديث ... ( فروق لغوية )