الحلقة الثالثة مع الجرجاني
20 - وقد بين عبدالقاهر العلة في اتجاه العلماء السابقين لزمانه كالجاحظ وقدامة بن جعفر , إلى إنكار تفضيل الكلام بمعناه الغفل إنكارا شديدا , وتلك العلة هي عنده ؛ مافي ذلك الرأي من خطورة على فهم قضية الإعجاز . يقول عبدالقاهر ( واعلم أنهم لم يبلغوا في إنكار هذا المذهب مابلغوه إلا لأن الخطأ فيه عظيم و وأنه يفضي بصاحبه إلى أن ينكر الإعجاز , ويبطل التحدي من حيث لا يشعر , وذلك أنه إن كان العمل على مايذهبون إليه أنه لايجب فضل ومزية إلا من جانب المعنى , وحتى يكون قد قال حكمة وأدبا , واستخرج معنى غريبا أو شبيها نادرا , فقد وجب إطراح جميع ماقاله الناس في الفصاحة والبلاغة , وفي شأن النظم والتأليف , وبطل أن يكون بالنظم فضل , وأن تدخله المزية وتتفاوت فيه المنازل , وإذا بطل ذلك فقد بطل أن يكون في الكلام معجز , وصار الأمر إلى ما يقوله اليهود , ومن قال بمثل مقالهم في هذا الباب , ودخل في مثل تلك الرفعة والضعة والرفث والنزاهة والبذخ والصناعة والمدح وغير ذلك من المعاني الحميدة أو الذميمة , أن يتوخى البلوغ من التجويد في ذلك إلى الغاية المطلوبة .
21- وهو يخالف الرأي اآخر لقدامة الذي أثبتته في كتابه ( الخراج ) والذي يجعل فيه الألفاظ موضوعا , ومادة لصناعة الكلام يصنع منها الصورة الكلامية بالتأليف , ذلك الرأي الذي استحسنه الخفاجي , وجرى عليه على حين اعترض على الرأي الأول , وأنحى عليه باللائمة والتفنيد , كما ذكرنا سابقا , وإذا كان عبدالقاهر ومن قبله قدامة في أحد رأييه قد نفيا عن المعاني الغفل الخام التي هي موضوعات ومواد لصناعة الكلام أن تكون مناطا للفضيلة ؛ فإن الخفاجي قد أوجب أن تكون الألفاظ وهي موضوع الكلام ومادته عنده مناطا للفضيلة , وأنكر ذلك الرأي الذي ينفي عنها , وهي على تلك الحال أن تكون مناطا للمزية , وقد شك في مصدر ذلك الرأي أهو قدامة أم غيره ؟ وذلك حيث يقول : وقد وقفت في بعض المواضع على كلام في هذه الصناعة لا أعلم الآن صاحبه قدامة أو غيره , لأني قد أنسيت الكتاب الذي وجدته فيه يدل على أن الألفاظ موضوع كما قلنا , إلا أنه يدعي أن الناظم متى ألف لفظة رديئة فليس ذلك بعيب عليه , كما أن النجار إذا صنع كرسيا من خشب رديء فليس بعيب في صناعته , وقد أحكمها . كون الموضوع الذي هو الخشب ردئيا , وهذا الذي ذكره هذا القائل فاسد ؛ وذلك لأن النجار يعاب إذا كان قليل البصيرة بموضوع صناعته , ولو تمكن من عمل ذلك الكرسي الذي مثل بين يديه من خشب مرضي , فعدل عنه إلى خشب رديء جهلا منه بالمختار من هذا الجنس ؛ كان معيبا عند أهل صناعته , وإنما الجهالات ـ ونعوذ بالله من العمى بعد الإبصار ـ أساس المفاضلة إذن بين الكلام عند عبدالقاهر صورة المعنى , لا المعنى الغفل الخام , وخضوع اللفظ في ترتيبه الخارجي لترتيب الصورة المعنوية في النفس , ودلالة النظم اللفظي على النظم المعنوي , هو الذي سوغ إطلاق اللفظ وإرادة صورة المعنى للتفريق بين المعنى الخام وبين صورته .
22- ويقول عبدالقاهر : واعلم أن قولنا الصورة إنما هو تمثيل وقياس , لما نعلم بعقلنا على الذي نراه بأبصارنا , فنحن نرى آحاد الناس , وأجناس الأشياء إنما تفترق باختلاف صورها , فالفرق بين إنسان وإنسان , وفرس وفرس , إنما يكون بخصوصية تكون في صورة هذا ولا تكون في صورة ذاك , وكذلك الحال في التفرقة بين المصنوعات , فالفرق بين خاتم وخاتم وبين سوار وسوار ,إنما تكون باختلاف الصورة في شيء ما وقياسا ذلك قلنا في البيتين يتفقان في جنس المعنى :إن صورة المعنى في هذا تختلف عن صورته في ذاك .
23- ويقرر عبدالقاهرأن الكلام في الصورة , ونسبة الفضيلة إليها أمر متواتر مشهور , سبقه إليه علماء البيان , وفي مقدمتهم الجاحظ مما يجعله جديرا بالتقبل والثقة , ويقول عبدالقاهر : وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئا نحن ابتدأناه , فينكره منكر و بل هو مستعمل مشهور في كلام العلماء , ويكفيك قول الجاحظ : وإنما الشعر صياغة , وضرب من التصوير .) .
24- ويشير عبد القاهر إلى ماكان لجهل اللفظيين بالصورة من أثر في نسبتهم المزية غلى اللفظ بصدد الموازنة بين الكلامين يتحدان في الغرض , أو بعبارة أخرى في أخذ المعنى الأصلي أو المعنى الغفل الخام , فيقول L إنهم لجهلهم بالصورة وضعوا لأنفسهم أساسا وبنوا على قاعدة فقالوا : إنه ليس إلا المعنى واللفظ بالصورة ولا ثالث وإنه إذا كان كذلك ؛ وجب إذا كان لأحد الكلامين فضيلة لا تكون للآخر ثم كان الغرض من أحدهما هو الغرض من صاحبه و أن يكون مرجع تلك الفضيلة إلى اللفظ خاصة , وألا يكون معناهما متغايرا أو غير متغاير معا .)
25- ولقد كلن شرح عبدالقاهر لنظريته في النظم على هذا النحو مدعاة إلى تجريد اللفظ من حيث هو لفظ من كل فضيلة ذات بال , فإذا لم تكت الألفاظ إلا رموزا لمعانيها , وإذا كان الفكر لا يتعلق بمعاني الكلمات في أنفسها , وإنما يتعلق بمعاني النحو التي تتمثل فيها العلاقات بين معاني الكلمات , وإذا كانت الألفاظ إنما تترتب في النطق على حسب ترتيب معانيها في النفس الترتيب الخاضع لهذه العلاقات , إذا كان الأمر كذلك فلا عبرة إذن بالألفاظ من حيث هي ألفاظ منطوقة , بل من حيث الاقتفاء بها آثار المعاني وترتيبها في النفس , فالألفاظ لاتستحق من حيث هي ألفاظ أن تنظم على وجه دون وجه , ولو فرضنا أن تنخلع من هذه الألافظ دلالتها لما كان شيء منها أحق بالتقديم من شيء , ولا يتصور أن يجب فيها ترتيب ونظم , ولو حَفّظْتَ صبيا شطر ( كتاب العين ) أو ( الجمهرة ) من غير أن تفسر له شيئا , وأخذته بأن يضبط صور الألفاظ وهيئآتها, ويوؤديها كما يؤدي أصناف أصوات الطيور ؛ لرأيته ولا يخطر له ببال أن من شأنه أن يؤخر لفظا ويقدم آخر , بل كان حاله حال من يرمي الحصى , ويعد الجوز , اللهم إلا أن تسوق أنت أن يأتي بها على حروف المعجم ليحفظ نسق الكتاب . ولو كان القصد بالنظم إلى اللفظ دون أن يكون الغرض ترتيب المعاني في النفس ثم النطق بالألفاظ على حذوها , لكان ينبغي ألا يختلف حال اثنين في العلم بحسن النظم , أو غير الحسن فيه , لأنهما يحسان بتوالي الألفاظ في النطق إحساسا واحدا , ولا يعرف أحدهما في ذلك شيئا يجهله الآخر , نعم ( إن النظم موجود في الألفاظ على كل حال , ولا سبيل إلى فهم ترتيب المعاني في النفس مالم تنظم الألافظ , لكن ذلك إنما هو باعتبار أن الألفاظ أوعية للمعاني , فهي لا محالة تتبع المعاني في مواقعها , فإذا وجب لمعنى أن يكون أولا في النفس و وجبفي اللفظ الدال عليه أن يكون أولا في المنطق , فأما أن تكون الألفاظ هي المقصودة قبل المعاني بالنظم والترتيب , وأما أن يستقل ترتيب الألفاظ عن ترتيب المعاني فإن ذلك باطل من الظن , ووهم يتخيل إلى من لا يوفي النظم حقه , إذ لا يتصور أن تعرف للفظ موضعا من غير أن تعرف معناه , ولا أن تتوخى في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ترتيبا ونظما , إنما الذي يحدث هو انك تتوخى في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ترتيبا ونظما , إنما الذي يحدث هو أنك تتوخى الترتيب في المعاني , وتعمل الفكر هناك , فإذا تم ذلك أتبعتها الألفاظ وقفوت بها آثارها , وأنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك لم تحتج إلى أن تستأنف فكرا في ترتيب الألفاظ , بل تجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني , وتابعة لها ولاحقة بها , والعلم بمواقع المعاني في النفس علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق .
ولا يصعب مرام اللفظ بسبب المعنى , إنما يصعب مرام المعنى بسبب اللفظ ؛ فصعوبة ما صعب من السجع هي صعوبة عرضت في المعاني من أجل الألفاظ , وذلك أنه صعب عليك أن توفق بين معاني تلك الألفاظ المسجعة وبين معاني الفصول التي جعلت أردافا لها , فلم تستطع ذلك إلا بعد أن عدلت عن أسلوب إلى أسلوب , أو دخلت في ضرب من المجاز , أو أخذت في نوع من الاتساع و وبعد أن تلطفت على الجملة ضربا من التلطف . وكيف يتصور أن يصعب مرام اللفظ بسبب المعنى ؟! وأنت إن أردت الحق لا تطلب اللفظ بحال وإنما تطلب المعنى , وإذا ظفرت بالمعنى فاللفظ معك , وإزاء ناظرك , وإنما كان يتصور أن يصعب مرام اللفظ على حدة , وذاك محال وهو في هذا يتفق مع ما يقوله ( نودييه Nodier ) في هذا المعنى : إن الكلمة ثمرة للفكرة , فمتى نضجت الفكرة سقطت الثمرة الناضجة , ولكنها تسقط على كلمتها ) ويتفق مع ( جوبير ) في قوله L عندما تصل الفكرة إلى تمامها تصيح بكلمتها )
26- ويصل عبد القاهر من ذلك إلى الحكمبالخطأ على من قصر الفصاحة على الكلمات من حيث هي ألفاظ منطوقة , وأصوات مسموعة , فادعى أنه لامعنى للفصاحة سوى التلاؤم اللفظي , وتعديل مزاج الحروف حتى لايتلاقى في النطق حروف ثقل على اللسان , كالذي أنشده الجاحظ من قول القائل :
وقبر حرب بمكان قفر = وليس قرب قبر حرب قبر
وقول ابن يسير :
لا أذيل الآمال بعدك إني = بعدها بالآمال جد بخيل
كم لها موقف بباب صديق=رجعت من نداء بالتعطيل
وزعم أن الكلمات في ذلك على طبقات ؛ فمنه المتناهي في الثقل , المفرط فيه , كالذي مضى , ومنه ما هو أخف منه كقول أبي تمام :
كريم متى أمدحه والورى معي = وإذا مالمته لمته وحدي
21- وهو يخالف الرأي اآخر لقدامة الذي أثبتته في كتابه ( الخراج ) والذي يجعل فيه الألفاظ موضوعا , ومادة لصناعة الكلام يصنع منها الصورة الكلامية بالتأليف , ذلك الرأي الذي استحسنه الخفاجي , وجرى عليه على حين اعترض على الرأي الأول , وأنحى عليه باللائمة والتفنيد , كما ذكرنا سابقا , وإذا كان عبدالقاهر ومن قبله قدامة في أحد رأييه قد نفيا عن المعاني الغفل الخام التي هي موضوعات ومواد لصناعة الكلام أن تكون مناطا للفضيلة ؛ فإن الخفاجي قد أوجب أن تكون الألفاظ وهي موضوع الكلام ومادته عنده مناطا للفضيلة , وأنكر ذلك الرأي الذي ينفي عنها , وهي على تلك الحال أن تكون مناطا للمزية , وقد شك في مصدر ذلك الرأي أهو قدامة أم غيره ؟ وذلك حيث يقول : وقد وقفت في بعض المواضع على كلام في هذه الصناعة لا أعلم الآن صاحبه قدامة أو غيره , لأني قد أنسيت الكتاب الذي وجدته فيه يدل على أن الألفاظ موضوع كما قلنا , إلا أنه يدعي أن الناظم متى ألف لفظة رديئة فليس ذلك بعيب عليه , كما أن النجار إذا صنع كرسيا من خشب رديء فليس بعيب في صناعته , وقد أحكمها . كون الموضوع الذي هو الخشب ردئيا , وهذا الذي ذكره هذا القائل فاسد ؛ وذلك لأن النجار يعاب إذا كان قليل البصيرة بموضوع صناعته , ولو تمكن من عمل ذلك الكرسي الذي مثل بين يديه من خشب مرضي , فعدل عنه إلى خشب رديء جهلا منه بالمختار من هذا الجنس ؛ كان معيبا عند أهل صناعته , وإنما الجهالات ـ ونعوذ بالله من العمى بعد الإبصار ـ أساس المفاضلة إذن بين الكلام عند عبدالقاهر صورة المعنى , لا المعنى الغفل الخام , وخضوع اللفظ في ترتيبه الخارجي لترتيب الصورة المعنوية في النفس , ودلالة النظم اللفظي على النظم المعنوي , هو الذي سوغ إطلاق اللفظ وإرادة صورة المعنى للتفريق بين المعنى الخام وبين صورته .
22- ويقول عبدالقاهر : واعلم أن قولنا الصورة إنما هو تمثيل وقياس , لما نعلم بعقلنا على الذي نراه بأبصارنا , فنحن نرى آحاد الناس , وأجناس الأشياء إنما تفترق باختلاف صورها , فالفرق بين إنسان وإنسان , وفرس وفرس , إنما يكون بخصوصية تكون في صورة هذا ولا تكون في صورة ذاك , وكذلك الحال في التفرقة بين المصنوعات , فالفرق بين خاتم وخاتم وبين سوار وسوار ,إنما تكون باختلاف الصورة في شيء ما وقياسا ذلك قلنا في البيتين يتفقان في جنس المعنى :إن صورة المعنى في هذا تختلف عن صورته في ذاك .
23- ويقرر عبدالقاهرأن الكلام في الصورة , ونسبة الفضيلة إليها أمر متواتر مشهور , سبقه إليه علماء البيان , وفي مقدمتهم الجاحظ مما يجعله جديرا بالتقبل والثقة , ويقول عبدالقاهر : وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئا نحن ابتدأناه , فينكره منكر و بل هو مستعمل مشهور في كلام العلماء , ويكفيك قول الجاحظ : وإنما الشعر صياغة , وضرب من التصوير .) .
24- ويشير عبد القاهر إلى ماكان لجهل اللفظيين بالصورة من أثر في نسبتهم المزية غلى اللفظ بصدد الموازنة بين الكلامين يتحدان في الغرض , أو بعبارة أخرى في أخذ المعنى الأصلي أو المعنى الغفل الخام , فيقول L إنهم لجهلهم بالصورة وضعوا لأنفسهم أساسا وبنوا على قاعدة فقالوا : إنه ليس إلا المعنى واللفظ بالصورة ولا ثالث وإنه إذا كان كذلك ؛ وجب إذا كان لأحد الكلامين فضيلة لا تكون للآخر ثم كان الغرض من أحدهما هو الغرض من صاحبه و أن يكون مرجع تلك الفضيلة إلى اللفظ خاصة , وألا يكون معناهما متغايرا أو غير متغاير معا .)
25- ولقد كلن شرح عبدالقاهر لنظريته في النظم على هذا النحو مدعاة إلى تجريد اللفظ من حيث هو لفظ من كل فضيلة ذات بال , فإذا لم تكت الألفاظ إلا رموزا لمعانيها , وإذا كان الفكر لا يتعلق بمعاني الكلمات في أنفسها , وإنما يتعلق بمعاني النحو التي تتمثل فيها العلاقات بين معاني الكلمات , وإذا كانت الألفاظ إنما تترتب في النطق على حسب ترتيب معانيها في النفس الترتيب الخاضع لهذه العلاقات , إذا كان الأمر كذلك فلا عبرة إذن بالألفاظ من حيث هي ألفاظ منطوقة , بل من حيث الاقتفاء بها آثار المعاني وترتيبها في النفس , فالألفاظ لاتستحق من حيث هي ألفاظ أن تنظم على وجه دون وجه , ولو فرضنا أن تنخلع من هذه الألافظ دلالتها لما كان شيء منها أحق بالتقديم من شيء , ولا يتصور أن يجب فيها ترتيب ونظم , ولو حَفّظْتَ صبيا شطر ( كتاب العين ) أو ( الجمهرة ) من غير أن تفسر له شيئا , وأخذته بأن يضبط صور الألفاظ وهيئآتها, ويوؤديها كما يؤدي أصناف أصوات الطيور ؛ لرأيته ولا يخطر له ببال أن من شأنه أن يؤخر لفظا ويقدم آخر , بل كان حاله حال من يرمي الحصى , ويعد الجوز , اللهم إلا أن تسوق أنت أن يأتي بها على حروف المعجم ليحفظ نسق الكتاب . ولو كان القصد بالنظم إلى اللفظ دون أن يكون الغرض ترتيب المعاني في النفس ثم النطق بالألفاظ على حذوها , لكان ينبغي ألا يختلف حال اثنين في العلم بحسن النظم , أو غير الحسن فيه , لأنهما يحسان بتوالي الألفاظ في النطق إحساسا واحدا , ولا يعرف أحدهما في ذلك شيئا يجهله الآخر , نعم ( إن النظم موجود في الألفاظ على كل حال , ولا سبيل إلى فهم ترتيب المعاني في النفس مالم تنظم الألافظ , لكن ذلك إنما هو باعتبار أن الألفاظ أوعية للمعاني , فهي لا محالة تتبع المعاني في مواقعها , فإذا وجب لمعنى أن يكون أولا في النفس و وجبفي اللفظ الدال عليه أن يكون أولا في المنطق , فأما أن تكون الألفاظ هي المقصودة قبل المعاني بالنظم والترتيب , وأما أن يستقل ترتيب الألفاظ عن ترتيب المعاني فإن ذلك باطل من الظن , ووهم يتخيل إلى من لا يوفي النظم حقه , إذ لا يتصور أن تعرف للفظ موضعا من غير أن تعرف معناه , ولا أن تتوخى في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ترتيبا ونظما , إنما الذي يحدث هو انك تتوخى في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ترتيبا ونظما , إنما الذي يحدث هو أنك تتوخى الترتيب في المعاني , وتعمل الفكر هناك , فإذا تم ذلك أتبعتها الألفاظ وقفوت بها آثارها , وأنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك لم تحتج إلى أن تستأنف فكرا في ترتيب الألفاظ , بل تجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني , وتابعة لها ولاحقة بها , والعلم بمواقع المعاني في النفس علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق .
ولا يصعب مرام اللفظ بسبب المعنى , إنما يصعب مرام المعنى بسبب اللفظ ؛ فصعوبة ما صعب من السجع هي صعوبة عرضت في المعاني من أجل الألفاظ , وذلك أنه صعب عليك أن توفق بين معاني تلك الألفاظ المسجعة وبين معاني الفصول التي جعلت أردافا لها , فلم تستطع ذلك إلا بعد أن عدلت عن أسلوب إلى أسلوب , أو دخلت في ضرب من المجاز , أو أخذت في نوع من الاتساع و وبعد أن تلطفت على الجملة ضربا من التلطف . وكيف يتصور أن يصعب مرام اللفظ بسبب المعنى ؟! وأنت إن أردت الحق لا تطلب اللفظ بحال وإنما تطلب المعنى , وإذا ظفرت بالمعنى فاللفظ معك , وإزاء ناظرك , وإنما كان يتصور أن يصعب مرام اللفظ على حدة , وذاك محال وهو في هذا يتفق مع ما يقوله ( نودييه Nodier ) في هذا المعنى : إن الكلمة ثمرة للفكرة , فمتى نضجت الفكرة سقطت الثمرة الناضجة , ولكنها تسقط على كلمتها ) ويتفق مع ( جوبير ) في قوله L عندما تصل الفكرة إلى تمامها تصيح بكلمتها )
26- ويصل عبد القاهر من ذلك إلى الحكمبالخطأ على من قصر الفصاحة على الكلمات من حيث هي ألفاظ منطوقة , وأصوات مسموعة , فادعى أنه لامعنى للفصاحة سوى التلاؤم اللفظي , وتعديل مزاج الحروف حتى لايتلاقى في النطق حروف ثقل على اللسان , كالذي أنشده الجاحظ من قول القائل :
وقبر حرب بمكان قفر = وليس قرب قبر حرب قبر
وقول ابن يسير :
لا أذيل الآمال بعدك إني = بعدها بالآمال جد بخيل
كم لها موقف بباب صديق=رجعت من نداء بالتعطيل
وزعم أن الكلمات في ذلك على طبقات ؛ فمنه المتناهي في الثقل , المفرط فيه , كالذي مضى , ومنه ما هو أخف منه كقول أبي تمام :
كريم متى أمدحه والورى معي = وإذا مالمته لمته وحدي
ومنه ما يكون فيه بعض الكلفة على اللسان , إلا أنه لا يبلغ بقائله مبلغ العيب والتشهير بأمره , وزعم أن الكلام إذا سلم من ذلك وصفا من شوبه ح كان الفصيح المشاد به المشار إليه , وادعى أن الصفاء أيضا يكون على مراتب ؛ يعلو بعضها بعضا , وأن له غاية إذ انتهى إليها كان الإعجاز , ويشير عبدالقادر بذلك إلى ما قاله الرماني في التلاؤم ؛ وهو يحصر العلة في خطأ من اتجه بالفصاحة هذا الاتجاه فيما سبق أن قرره من أن قيمة الألفاظ رهن بدلالتها على المعاني , فالألفاظ لا تراد لنفسها , وإنما تراد لتجعل أدلة على المعاني , فلو جردت الألفاظ من دلالتها وجمعتها جمعا و كيفما اتفق ولم تستهدف بها معنى فقدت قيمتها , ولا عبرة حينئذ بأي وصف لها , وعلى ذلك يكون التلاؤم فيها إذ ذاك وغير التلاؤم سواء .
تعليقات