كتاب حياة ابن جني ( منقول)


أبو الفتح عثمان بن جني
المشهور بـ «ابْنِ جِنِّي» عالم نحوي كبير، ولد بالموصل عام 322 هـ، ونشأ وتعلم النحو فيها على يد أحمد بن محمد الموصلي الأخفش(1) ويذكر ابن خلكان أن ابن جني قرأ الأدب في صباه على يد أبي علي الفارسي حيث توثقت الصلات بينهما، حتى نبغ ابن جني بسبب صحبته، حتى أن أستاذه أبا علي، كان يسأله في بعض المسائل، ويرجع إلى رأيه فيها. على الرغم أن ابن جني كان يتبع المذهب البصري في اللغة إلا أنه كان كثير النقل عن أناس ليسوا بصريين في النحو واللغة وقد يرى في النحو ما هو بغدادي أو كوفي، فيثبته.

التقى ابن جني بالمتنبي بحلب عند سيف الدولة الحمداني كما التقاه في شيراز، عند عضد الدولة وكان المتنبي يحترمه ويقول فيه: «هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس، وكان إذا سئل عن شيء من دقائق النحو والتصريف في شعره يقول: سلوا صاحبنا أبا الفتح». ويعد ابن جني أول من قام بشرح أشعار ديوان المتنبي وقد شرحه شرحين الشرح الكبير والشرح الصغير، ولم يصل إلينا في العصر الحديث سوى الشرح الصغير. كان ابن جني يثني دوما على المتنبي ويعبر عنه بشاعرنا فيقول: «وحدثني المتنبي شاعرنا، وماعرفته إلا صادقا». وكان كثير الاستشهاد بشعره وإذا سُئل المتنبي عن تفسير بعض ابياته كان يقول : أسالوا ابن جني فإنه اعلم بشعري مني بلغ ابن جني في علوم اللغة العربية من الجلالة ما لم يبلغه الا القليل ويبدو ذلك واضحا في كتبه وأبحاثه التي يظهر عليها الاستقصاء والتعمق في التحليل، واستنباط المبادئ والأصول من الجزئيات. اشتهر ببلاغته وحسن تصريف الكلام والإبانة عن المعاني بوجوه الأداء ووضع أصولا في الاشتقاق ومناسبة الألفاظ للمعاني.

سيرته

نسبه

هو أَبُو الفَتح عُثمَان بِن جِنِّي، اسمُهُ الأصلي «عثمان»، وكنيته «أبو الفتح»، ويُنسَب في بعض الأحيان إلى الموصل فيُقال «ابن جني المُوصِلي»، إلا أنَّه يُسمَّى غالباً «ابن جني» فقط. ولا يسجِّل المؤرخون العرب نَسَبَه ما بعد أبيه، نظراً لأنَّه لم يكن عربي النسب، فأبوه جنِّي، بكسر الجيم وتشديد النون وكسرها، هو مملوك رومي يوناني لسليمان بن فهد بن أحمد الأزدي، وهو من أعيان الموصل. وفي صدر إحدى مخطوطات "التصريف المملوكي" وَرَدَ أنَّ اسمه هو عثمان بن عبد الله بن جني، وهو يخالف كماً هائلاً من المصادر تنصُّ بوضوح على أنَّ والده هو "جِنِّي"، ونُشِرَ اسمه على هذه الصورة في الطبعة اللاتينية من ترجمة المستشرق هوبرغ في ليبزيج سنة 1885، وذكر كمال مصطفى أيضًا اسمه بالصورة الخاطئة في مقدمِّته لتحقيق كتاب "الحور العين". والأخبار الواردة عن أبيه المسمى جِنِّي ليست بالكثيرة، وكذا عن والدته التي تظل مجهولة الاسم، ولا نعلم أن كان له إخوة أم أنَّه الابن الوحيد. ولا نجد أحداً يؤرخ لأبيه قبل مجيئه إلى الموصل، أو حتى إذا كان مولوداً فيها أم أنَّه انتقل إليها في فترة من حياته اللاحقة. ووِفقَ أحد الروايات كان أبيه جُندِياً «شتيم الوجه وحشي الصورة لا عِلم عنده ولا فهم»، ويُقال أنَّه كان جُندِياً في جيش سيف الدولة الحمداني. ويذكر ابن جنِّي في أحد أبيات الشعر المنسوبة إليه أنَّه يؤول إلى سلالة القياصرة، ويعني بذلك أنَّه ينتمي إلى الروم[؟] عامَّة وليس قياصرة الروم بالتحديد. ويجمع المؤرخون أنَّ اسم «جِنِّي» هو في الأصل تعريبٌ لاسم علم رومي، وتذكر المصادر التقليدية أنَّ اسم أبيه الأصلي بالرومية هو «كني»، بينما يقترح محمد النَّجار أنَّ اسم أبيه الأصلي هو «جينايوس» (باللاتينية: Gennaius، باليونانية: Γενναιος)، وهو الأصل الإيتمولوجي للإنجليزية الحديثة «genius»، بمعنى كريم أو فاضل، ويستند في ذلك إلى ما رواه ابن ماكولا في كتابه "المؤتلف والمختلف" عن إسماعيل بن المؤمَّل قوله أنَّ: «أبا الفتح كان يذكر أنَّ أباه كان فاضلاً بالرومية». وأخذ برأيه الكثير من الكتاب والباحثين المعاصرين. وينقل محمد أسعد طلس عن المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون قوله أنَّ «جِنِّي» هو تعريب «جانواريوس» (باللاتينية: Januarius)، وهو الشهر الأوَّل من التقويم اليولياني ويقابل يناير من التقويم الغريغوري. ويقترح أحمد أمين أن يكون «جِنِّي» تعريب لاسم «جونا» (باللاتينية: Jonah). ويُخطِئ الكثير في قراءة اسمه بالياء المُشدَّدة، على اعتبار أنَّها ياء النسب، وهذا خطأ شائع.

وكذلك لا يُعرَف الكثير عن سيِّد أبيه سليمان بن فهد الأزدي، سوى أنَّه كان من أعيان الموصل وسادتها وأشرافها، ويشتبه محمد النجار أنَّ يكون هو سليمان بن فهد المتوفى في 411 الذي ذكره ابن الأثير في "الكامل"، ويذكر ابن الأثير أنَّ سليمان بن فهد هذا كان كاتباً عند أبي إسحاق الصابي في بغداد، ثُمَّ انتقل إلى الموصل واقتنى فيها ضياعاً وتوطَّدت علاقته مع حاكم المدينة، لكنَّه ما لبث أن وقع في مشكلة مع أمير الموصل أبي المنيع قراوش بن المقلد فقتله أبو المنيع في سنة 411. وتبرز مشكلة العمر عند افتراض كونه مولى جني، فهو تُوفِّي بعد ابن جني بتسعة عشر عاماً، وابن جني توفي بعد عمر التسعين، وإذا كان هو مولى أبيه فهذا يعني أنَّه تُوفِّي بعد عمر المائة على أقلِّ تقدير، ومن المستبعد بعد هذا العمر أن يظل في السلطة ويخاصم أمير الموصل مُسبِّباً وفاته. غير أنَّ محمد النجار يُرجِّح كونه مولى جني نظراً لأنَّ ابن الزمكدم الذي هجا ابن جني وكانت بينهما خصومة، هجا أيضًا سليمان بن فهد صاحب قراوش، مِمَّا يرجح أنَّه كان لا يزال في السلطة في فترة حياة ابن جني وشهرته.

يتَّفِقُ المُترجِمُون لابن جني أنَّه كان فخوراً بانتسابه للروم، ونظَمَ أبياتاً تدلُّ على افتخاره بنسبه، إلا أنَّ افتخاره بعرقه لم تغلب عليه النزعة الشعوبية المتعصبة ضدَّ العرب، التي انتشرت نسبياً في زمنه بين غير العرب من المسلمين، على النقيض من هذا فقد رُويَ عن ابن جني مدحه لأخلاقيات العرب في الجاهلية، كما أنَّه يُفضِّل اللغة العربية على سواها من اللغات، وهي عنده ذات مكانة خاصَّة، وهو يصرح بهذا في أكثر من موضع من مؤلفاته. وابن جني الرومي الأصل ترعرع وعاش بين قبيلة أزد العربية في الموصل، وعلى الرغم من انتسابه العرقي المختلف عن هذه القبيلة فقد كان أيضًا أزدي الانتماء، وهو يُصرِّح بانتمائه لأزد في مؤلفاته، ويُنسَب إلى أزد فيُقال ابن جنِّي الأزدي. فهو رومي العرق عربي النشأة. وشعر ابن جنِّي بقدر من الانتقاص في مجتمع ثقافي يضع للنسب مكانةً، فنراه يدافع عن نسبه في أشعاره فيقول:



النشأة

ولِدَ عثمان بن جني في مدينة الموصل زمن الخلافة العباسية، وتحديداً في فترة حكم الخليفة أبو الفضل المقتدر بالله، وتاريخ ولادته مختلف عليه، والثابت والمتَّفق عليه أنَّ ولادته كانت قبل سنة 330 من التقويم الهجري، وعند هذا الحد تقِفُ أغلبيَّة المصادر، غير أنَّ أبا الفداء في كتابه "المختصر" يذكر أنَّ ولادته كانت في سنة 302، ويذكر ابن القاضي في "طبقات النحاة" أنَّ ابن جني تُوفِّي عن عمر السبعين، ومن الثابت أنَّ وفاته في 392 فتكون ولادته طبقاً لرواية ابن القاضي في سنة 322 أو 321. ويُرَجِّح محمد النجار في تقديمه لكتاب "الخصائص" أنَّ ولادة ابن جني في 302 طبقاً لمقولة أبي الفداء، ويضع احتمال السهو فيما نُسِبَ إلى ابن القاضي، ويعتقدُ أنَّه تُوفِّي عن عمر التسعين لا السبعين، لأنَّ ابن جني كان يُدرِّس في جامع الموصل سنة 337، وإذا صحَّ ما ذهب إليه ابن القاضي سيكون عمره حينها خمسة عشر عاماً، وهو ما يرفضه النجار. ويذكر واضعو "دائرة المعارف الإسلامية" أنَّ ولادته كانت في سنة 320، ويُرجِّح فاضل السامرائي أن تكون ولادته في تلك السنة حسب تقديره، واعتمد في ذلك أنَّه المذهب الوسط - حسب قوله - بين من يجعل ولادته قرب الثلاثين ومن يجعلها في بداية القرن، وهكذا سيكون عمر ابن جني وقت لقائه بالفارسي في السابعة عشر أو الثامنة عشر، وهو يلائم عمر ابن جني حسب وقائع الحادثة، ويتابعه في استنتاجه حسام النعيمي. ويأتي كارل بروكلمان في "تاريخ الأدب العربي" برأي آخر، وهو أنَّه ولِدَ قبل سنة 300 من الهجرة.

وفي الموصل نشأ ابن جنِّي وترعرع وعاش طفولته وأخذ العلم عن شيوخ مدينته، وتفاصيل صِباه وحياته الأوليَّة لا زالت مجهولة. وقد عاشت الدولة العباسية في هذا القرن حالةً من الاضطراب السياسي قابلها نشاط ثقافي وفكري ضخم، وفي هذا القرن فاق عدد العلماء والأدباء عددهم في غيره من القرون بنسبة ملحوظة، ولم تكن الموصل استثناءً من هذه الموجة الفكريَّة، فقد كانت تَؤُمُّ بالعلماء في شتَّى المجالات، وانتشرت دُوَر العلم في الموصل كان أشهرها المُسَمَّى "دار علم الموصل" الذي أنشأه أبو القاسم الموصِلِي في سنة 323، وأودع فيه خزانة كتبٍ من جميع العلوم، وجعله وقفاً على طُلاب العلم لا يُمنَع من دخوله أحد ويُفتَح كُلَّ يوم. وفي ظُلِّ هذه البيئة المُشجِّعة على العِلم والتعلُّم نشأ ابن جنِّي في مجالس الشيوخ والعلماء، وازدادت معرفته يوماً بعد يوم، وشُغِف خاصةً باللغة العربية وعلومها، وتعمَّق ابن جني في دراسة اللغة العربية ونحوها وصرفها إلى أن اشتغل بتدريسها وهو لا يزال شاباً في مساجد الموصل. وتاريخ النحو في الموصل يعود إلى زمن نشأة هذا العلم، وأوَّل نحوي في الموصل هو مسلمة بن عبد الله الفهري الذي تتلمذ على يد عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، وهو من رجال الطبقة الأولى من نحاة البصرة الأوائل. وصادفَ أن زار أبو علي الفارسي الموصل ودخل على المسجد الجامع في المدينة وابن جني يُقرِئ الناسَ علوم اللغة العربيَّة، ويُقال أنَّ المسألة التي كان يُناقشها هي قلب الواو ألفاً في نحو قال وقام، فلَفَتَ انتباهه هذا الشاب الذي تصدَّر للتدريس وهو ما يزال يافعاً، فيسأله سؤالاً في التصريف، يحاول ابن جنِّي قدر استطاعته أن يجيب عنه، فيقول له أبو علي: «ما زِلتَ حصرماً وتُرِيدُ أن تجعل من نَفسِكَ زبيباً»، في إشارةً إلى أنَّه تعجَّل في التدريس، ويعرِف ابن جنِّي لاحقاً أنَّ هذا الرجل هو أبو علي الفارسي من أشهر علماء اللغة في زمانه، فيتركُ التدريس في الموصِل ويلحق بأبي علي إلى بغداد ويصاحبه سنوات عديدة.

التعليم

صاحَبَ ابن جنِّي أكثر من عالم وشيخ، وعلى عادة طلاب العربية في تلك الفترة كان يأخذ عن جميعهم مشافهةً، ويتجنَّب الأخذ من الكتب والصحف، وقد أخذ بسلسلة سندٍ من شيوخه عن كبار النحاة المتقدِّمين عليه. بدأ ابن جني تعليمه في سنٍّ صغيرة في مسقط رأسه، وأخذ عن جماعة من المَوَاصِلَة، ولا تُسَمِّي كتب التراجم سوى شيخ واحد تتلمذ على يده في الموصل، وهو أحمد بن محمد المُوصِلي الشافعي، ويُلَقَّب بالأخفش، وليست له شهرة كافية ليُعنى المؤرخون بترجمته ولا نعرف عنه شيئاً. ويُحتَمل أنَّ ابن جني تتلمذ في الموصل عند أبي بكر محمد بن هارون الروياني، وسمع منه روايات عن أبي حاتم السجستاني، ويُحتمل كذلك أنَّه سمع منه في بغداد. وفي الموصل كان ابن جِنِّي يُخالط الأعراب المُحافظين على أصالة لغتهم، وهو كثيراً ما يروي عنهم في مؤلفاته، ولا يأخذ من الأعرابي إلا بعد امتحانه والتأكُّد من خلو لغته من اللحن وتأثير الحضر، ومِمَّن يثق في لغته من أهل الموصل أبو عبد الله محمد بن العسَّاف العقيلي، يقول عنه ابن جني: «وعلى نحو ذلك فحضرني قديماً بالموصل أعرابي عُقَيلي جوبي تميمي محمد بن العسَّاف الشرجي، قَلَّما تجد بدوياً أفصح منه».

ثُمَّ صَحَبَ أبا علي الفارسي بعد لقائه في الموصل، وتجدر الإشارة إلى أنَّ ابن خلكان يزعم أنَّ ابن جني التقى بالفارسي في بغداد قبل مجيئه إلى الموصل، وتدعم خديجة الحديثي هذا القول بنصوص من مؤلفات ابن جني يذكر فيها تلاميذ المبرد وثعلب في بغداد. والفارسي هو أكثر الشيوخ والعلماء تأثيراً عليه، ولا نكاد نجد كتاباً لابن جني لا يذكره فيه أو يعرض بعضاً من آرائه ويقتبس منها ويثني عليها، ويعود هذا الاهتمام إلى العناية التي تلقاها ابن جني من قِبَلِه، وإلى المُدَّة الزمنية الطويلة التي قضاها ابن جني في صحبته، وتُقَدَّر بحوالي 40 عاماً منذ لقائه في الموصل سنة 337 حتى وفاة الفارسي في 377. ويُرجِّح مهدي المخزومي أنَّ ابن جني لم يصحب بعد لقائه بالفارسي أيَّ أستاذٍ آخر. وفي هذه الأربعين عاماً لم يفارقه إلا قليلاً، وكان يلازمه في جميع أسفاره، فغادر معه إلى الشام ودخل حلب في صحبته سنة 346، وصاحبه إلى بغداد واستقرَّ معه في البيت البويهي. وخلال هذه الفترة قرأ عليه الفارسي كتاب "التصريف" للمازني، وأخذ عنه "كتاب سيبويه"، وكتاب "الهمز" و"النوادر" لأبي زيد، و"القَلب والإبدال" ليعقوب، وكتاب "التصريف" للأخفش، وأخذ عنه كذلك القراءات القرآنية. وقام ابن جني بتأليف جميع مصنفاته في صحبة الفارسي، وفي المرات القليلة التي لا يرافقه فيها كان يكاتبه حول المسائل اللغوية والنحوية المستعصية، ومع هذه الألفة والصحبة والتقدير الذي يكنّه ابن جني لأستاذه فهو لا يتوانى عن تخطئته متى ما رآه مُجانِباً للصواب، أو يكتفي بتبنِّي آراء مخالفةً لأستاذه. وأكثرَ ابن جني من نقل آراء أستاذه الفارسي، ولم ينقل آراءه فحسب، بل نقل عنه أيضًا مروياته عن العلماء المُتَقَدِّمين، وفي أغلب الأحيان يقتصر فقط على إسنادها إليه وفي بعض الأحيان يذكر السند كاملاً.

وأخذ ابن جني عن كثيرٍ من رواة اللغة والأدب، ويأخذ الروايات بسندٍ من الراوي حتى يصل إلى القائل ويُدوِّن ذلك في مؤلفاته، وتتلمذ ابن جني لدى محمد بن الحسن المعروف بابن مقسم، وعلى الأرجح التقى به ابن جني في بغداد، وكثيراً ما يذكره في مؤلفاته خاصةً كتابي "الخصائص" و"سر صناعة الإعراب"، ولم يكن ابن مقسم نحوياً مشهوراً كأبي علي، ولكنَّه يحفظ الكثير من مؤلفات كبار النحاة، فأخذ منه ابن جني الكثير من المرويات عن أحمد بن يحيى الشيباني المُلَقَّب بثعلب، وعن أبي عثمان المازني والكسائي من طريق ابن مقسم عن ثعلب، وأكثر أيضًا من الأخذ عن ابن الإعرابي وعن أبي عمر الشيباني بسند ابن مقسم مباشرةً إليهما. وبطريقة مماثلة للتي أخذ بها المرويات عن ابن مقسم أخذ أيضًا عن رواةٍ آخرين، فأخذ عن عبد الملك الأصمعي وأبي عثمان المازني من طريق أبي بكر محمد بن علي القاسم، وأخذ عن عبد الملك الأصمعي ومحمد بن سلام ويونس بن حبيب وأبي عمرو بن العلاء من طريق أبي بكر جعفر بن محمد بن الحاج، وأخذ عن المبرد من طريق محمد بن سلمة، وعن اليزيدي ومحمد بن حبيب من طريق أبي الفرج الأصفهاني، وأخذ عن الأصفهاني في بغداد، وعن أبي حاتم السجستاني من طريق أبي إسحاق الفرمسيني، وعن المبرد وثعلب والسكري من طريق أبي سهل أحمد بن محمد القطان، وعن قطرب من طريق علي بن محمد، وعن الفراء[؟] من طريق محمد بن محمد، وأخذ كتاباً في شواذ القراءات القرآنية من تأليف قطرب من طريق محمد بن علي بن وكيع. وبهذه الطريقة اكتسب ابن جني ثقافته النحويَّة والأدبيَّة، وكان ابن جِنِّي مُطّلعاً على آراء جميع هؤلاء النحاة المتقدمين.

التزم ابن جني الدِقَّة والأمانة العلمية عند نقله عن شيوخه، فهو لا يذكر آرائهم في مؤلفاته بدون نسبتها إليهم، وحَرَصَ قدر الإمكان على نقل كلامهم بالنص، فيقول عندما يستحضر أقوال شيوخه كما سمعها: «هذا لفظه لي البتَّة»، وإذا نقل قولهم بالمعنى أو المفهوم يقول: «هذا محصول معنى أبي علي، فأما نفس لفظه فلا يحضرني الآن حقيقة صورته».

قائمة أساتذة وشيوخ ابن جني

الرحلات العلمية

بعد أن غادر ابن جنِّي الموصل لم يستقر في مدينة واحدة، وظلَّ يتنقَّل بصحبة أستاذه أبي علي الفارسي بين المُدن والأمصار، وفي البداية دخل بغداد عاصمة الخلافة وظلَّ فيها فترةً طويلة، أخذ عن علمائها وشيوخها، ومن جملة من أخذ عنهم في بغداد أبي علي وابن مقسم. ثُمَّ غادر بغداد وانتقل إلى الشام بصحبة أستاذه، ودخل مدينة حلب وواسط، وتواصل مع الحمدانيين، وتعرَّف على أدباء وشعراء البلاط الحمداني، وتوثَّقت صلته بسيف الدولة في حلب، وبدأت صداقته مع المتنبي هناك. ودخل مدينة واسط، ونزل في دار الشريف أبي علي الجواني، نقيب العلويين، وظلَّ فيها فترةً من الزمن درَّس فيها اللغة والنحو. ثُمَّ غادر إلى دار مملكة البوهيين، واختُلِفَ حول ما إذا كانت دار الملك هذه تلك التي في شيراز، أو دار مملكة البوهيين إلى جهة الشرق من بغداد، ومن الثابت أنَّ ابن جني زار شيراز، ومن الثابت أيضًا أنَّه استقرَّ بعد ترحاله الطويل في البيت البويهي شرقي بغداد، ومن هناك خدَمَ عضد الدولة ومن بعده صمصام الدولة ومن بعده شرف الدولة ثُمَّ بهاء الدولة، وفي فترة حكم بهاء الدولة كانت وفاته، وكان ابن جني يُقِيم في منزلهم في بغداد يشاورهم ويلازمهم ويؤدِّب أولادهم.

لقاؤه بالمتنبي

تعرَّف ابن جني خلال رحلاته على أبي الطيِّب المتنبي، الشاعر المعروف، ونشأت بينهما علاقة صداقة أدبيَّة دامت حتى وفاة الشاعر. والتقى ابن جني بالمتنبي لأوَّل مرَّة في بلاط سيف الدولة الحمداني في حلب، وظلَّ في صحبته هناك مُدَّةً طويلة، ثُمَّ التقى به مرَّةً أخرى في بلاط عضد الدولة في شيراز. وكان المتنبِّي يكنُّ له الاحترام والتقدير، ويقول في ابن جني: «هذا رجلٌ لا يعرِفُ قدرَه كثيرٌ من النَّاس»، وإذا سُئِلَ المتنبَّي عن مسألةٍ لغويَّة في شعره أو تفسير أحد أبياته يقول: «عليكم بالشيخ الأعور ابن جنِّي، فسلوه، فإنَّه يقول ما أردتُ وما لم أرد». وكان ابن جني يقابله بنفس الدرجة من الاحترام والتقدير، ودافع عنه ضُدَّ نُقَّاده، ولم يؤثِّر في نظرته إلى المتنبي أستاذه أبو علي الذي امتلك آراءً سلبيَّة بخصوص المتنبِّي. ويُعدُّ أبو الطيب أحد أساتذة ابن جني وشيوخه، وجلس ابن جني في مجلسه، وقرأ عليه ديوانه، وكان لدى ابن جني اهتمام بشعره، وكثيراً ما يسأله عن معاني أبياته. وابن جني هو أوَّل من شرح ديوان المتنبي، وله شرحان على ديوانه، الشرح الكبير والشرح الصغير. وكان ابن جني يمدح المتنبي في مؤلفاته، ويُكثِر من الاستشهاد بأشعاره، وغالباً ما يُسمِّيه "شاعرنا" كقوله في "الخصائص": «وحدَّثنِي المُتَنَبِّي شاعرنا وما عرفته إلا صادقاً [...]». غير أنَّ المستشرق كارل بركلمان يذكر وقوع مناقضات بين ابن جني والمتنبي. وكان ابن جني يُتابع أخبار المتنبي من علي بن حمزة البصري الذي كان مُقرَّباً من الشاعر. وعندما بلغ ابن جني خبر وفاة المتنبي في سنة 354هـ رثاه بقصيدة طويلة منها:



هناك اعتقادٌ لدى كُتَّاب قُدامى وباحثين مُعاصرين أنَّ ابن جني لم يلتقِ بالمُتنبِّي في شيراز، وقال بهذا أحمد بن علي بن معقل الأزدي في كتابه "المآخذ على شُرَّاح ديوان أبي الطيب المتنبي". ويعرض عباس هلني الجراخ عدَّة أسباب تدعم هذا القول، من ذلك أنَّ ابن جني كان يسأل علي بن حمزة البصري عن المتنبي، وعلي البصري خرج مع المتنبي في رحلته إلى بلاد فارس، ما يُرجِّح أنَّه لم يكن حاضراً معهما، وكذلك جواب المتنبي عندما سُئِل في شيراز عن تفسير أحد أبياته، فقال: «لو كان صديقنا أبو الفتح حاضراً لفسَّره»، ويُضاف إلى ذلك شهادة تلميذه الثمانيني أنَّ إحدى قصائد المتنبي من الفارسيات لم يقرأها عليه ولكن نقلها من خطِّه.

ويتجاوز عبد الغني الملاح هذا إلى القول أنَّ ابن جني لم يلتقِ مُطلقاً بالمتنبِّي، ويذكر عدة حجج تدعم قوله ضمَّنها في دراسة له منشورة على مجلَّة "المورد" في عددها الثالث سنة 1977، منها أنَّ دخول المتنبي حلب وجلوسه عند سيف الدولة كان في سنة 437، وهي السنة ذاتها التي لقي فيها ابن جني الفارسي وهو لا يزال يافعاً، مِمَّا يستبعد لقائهما عند سيف الدولة، ويستدلُّ كذلك بالعلاقة الوطيدة التي جمعت ابن جني بالبويهيين، مِمَّا يرجِّح عدم جلوسه عند أعدائهم الحمدانيين في حلب. ويُشكِّك عبد الغني ملاح في الروايات التي تجمعهما معاً، ويُرجِعُ جميعها إلى أبي الحسن الطرائفي، ويُشكِّك في وجود هذه الشخصيَّة، ويعتقد أنَّها مُصطنعة لإثبات العلاقة بين المتنبي وابن جني، كما يُحاول إثبات فوارق زمانيَّة ومكانيَّة بين سيرة كُل منهما، فيقول مثلاً أنَّ المتنبي كان في الكوفة وقتما كان ابن جني في بغداد، ويخالف بهذا إحدى الروايات التي تنصُّ على أنَّ المتنبي اجتمع في بغداد بابن جني. وردَّ عليه محسن غياض، الذي قام بتحقيق كتاب "الفتح الوهبي على مشكلات المتنبي" لابن جني، في دراسة هي الأخرى منشورة في مجلة "المورد" في عدد يوليو 1981، وبدأ محسن عياض دراسته بتفنيد أدلّة الملاح، وإثبات الروايات حول اجتماع المتنبي بابن جني، وإثبات وجود الطرائفي من مصادر عدة، غير أنَّ دليله الأهم على لقاء المتنبي بابن جنِّي هو إشارة ابن جني نفسه على لقائه بالمتنبي، وأحصى محسن عياض أربعاً وستين موضعاً يشير فيه ابن جني صراحةً أنَّه التقى بالمتنبي، فيقول: «لقيت أبا الطيِّب»، «حدَّثني»، «سألته»، «قلت له»، «سمعت أبا الطيِّب»، «قرأت عليه». ويردُّ عليه الملاح أنَّ هذه النصوص من مؤلفات ابن جني مدسوسة من قبل النساخ، وأنَّها من قبيل المزاعم التي دفعته في الأساس إلى نفي اللقاء بينهما.

وينقل ياقوت الحموي في "معجم الأدباء" عن أبي الحسن الطرائفي قوله أنَّ ابن جني لم يأخذ شيئاً من قصائد المتنبي مُباشرةً منه، وهو قول يعتقد حسام النعيمي بطلانه، لأنَّ ابن جني يُصرِّح في مؤلفاته خلاف ذلك، فيقول: «هذا حصلتُهُ من المتنبِّي وقت القراءة عليه»، ويقول أيضًا: «وسألته وقت القراءة»، ويُصرِّح بمثل هذا في مواضع أخرى غيرها. ويضع محسن غياض احتمال أن الطرائفي كان يُشير إلى بداية العلاقة بين ابن جني والمتنبي قبل أن تتوثق صلاتهما.

تلامذته

بدأ ابن جني التدريس منذ شبابه في مساجد الموصل، وفي سنٍّ أصغر من المعتاد، وكانت علوم اللغة العربية مجال تدريسه، لكنَّه منذ لقائه بأبي علي في 337 توقَّف عن التدريس ولحق به وتتلمذ لديه وتابع تعليمه. وعندما تعمق ابن جني في علوم اللغة، وبلغ سناً مناسبة، تفرَّغ للتدريس في بغداد والموصل متى ما فارق أستاذه الفارسي، ودرَّس علوم اللغة والنحو عندما نزل في مدينة واسط، غير أنَّه لم يتفرَّغ تماماً للتدريس ويواضب عليه إلا بعد وفاة أستاذه في سنة 377، حيث استقرَّ في بغداد، وتصدَّر للتدريس، وشغل موقع شيخه أبي علي، واستمرَّ في عمله واجتمع حوله عدد من الطلاب منذ تصدُّره للدراسة في 377 حتى وفاته في 392. وفي ظلِّ هذه الخمسة عشر سنةً تخرَّج على يديه عدد من الطلاب، اشتهر منهم الكثير. وكان ابن جني يُدرِّس علوم اللغة والنحو والصرف والأدب والقراءات القرآنيَّة والخط العربي، ومن أشهر تلامذته عمر بن ثابت الثمانيني، اللغوي المشهور، وهو الوحيد من طلابه من خلَّف مصنفات محفوظة حتى الزمن المعاصر، والثمانيني قام بشرح كتابي "اللمع" و"التصريف المملوكي" لابن جني، وتُوفِّي في 442. وتتلمذ لديه عبد السلام بن الحسين البصري، وهو لغوي وعالم قراءات قرآنية، أخذ عن ابن جني القراءات، وتوفِّي في 405. وأخذ عنه أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن نصر مؤلفاته حفظاً، وأذِنَ له ابن جني روايتها بإجازة مكتوبة بخطه. وتتلمذ لديه اللغوي أبو الحسن السمسمي، الذي تتلمذ أيضًا لدى الفارسي والسيرافي، وتوفِّي في سنة 415، وليست له مصنفات مذكورة. وكان علي بن زيد القاشاني من أصحاب ابن جني، وأخذ عنه طريقته المميزة في الخط، ويقول عنه ياقوت الحموي: «وهو [علي بن زيد] صاحب الخط الكثير الضبط المعقَّد، سلك فيه طريقة شيخه أبي الفتح». ومن تلامذته ثابت بن محمد الجرجاني، وهو لغويٌ ونحويٌ أخذ عن ابن جني وعن تلميذه عبد السلام بن الحسين البصري في بغداد، قُتِل في الأندلس سنة 431. وتتلمذ لديه الذاكر النحوي المصري، وأشار القفطي أنَّه أخذ علماً غزيراً عن ابن جني. وعلي بن هلال بن البوَّاب أخذ عن ابن جني في بغداد، وهو خطَّاط مشهور أخذ عنه الأدب وعلوم اللغة. وأخذ عنه محمد بن عبد الله بن شاهويه علوم اللغة، وقرأ عليه كُتباً في النحو والأدب. وأخذ عنه علي بن عمر القزويني، وأشار إلى ذلك جمال الدين الأسنوي. وأخذ عنه أيضًا ابن سنان الخفاجي. ومن تلامذته أبناء عضد الدولة، ووكِّل إليه تربيتهم وتعليمهم أثناء إقامته في دار مملكة البويهيين، كما درَّس أبناءه الثلاثة، وعلَّمهم الأدب والخط.

ومن تلامذته المعروفين الشريف الرضي، الشاعر المشهور مؤلِّف "نهج البلاغة"، وأخذ عنه علوم اللغة في بغداد، ويُذكَر ابن جني من جملة شيوخه، ويشير هو إلى تتلمذه عنده في قصيدة خصصها في مدح ابن جني، حيث يقول:

ويبدو أنَّ علاقة ابن جني بالشريف الرضي كانت علاقة مودة وصداقة إلى جانب علاقة التلميذ بمعلِّمه، وقرأ الشريف على ابن جني مدةً طويلة، توطدت علاقته به كما يظهر من ثنائه عليه في أشعاره ومؤلفاته، وبعد وفاة ابن جني رثاه الشريف الرضي بقصيدتين، وكان هو الإمام في صلاة جنازته.
قائمة تلاميذ ابن جني

شخصيته

اتَّسمت شخصيَّة ابن جني بالرصانة والجديَّة، وكان لا يمزح، ولا يتقبَّل المزاح كما روي عنه، وابتعد ابن جني عن اللهو والشرب والمجون الذي ساد في زمنه بين رجال الأدب والفن، ومرد هذا عند المحدثين إلى اشتغاله بالعلوم والآداب لدرجة الانعكاف منذ صغره. وكان ابن جني لا يُحسن المديح والثناء بغيَّة تحقيق منفعة أو مصلحة شخصيَّة، كما كان يفعل الشعراء في بلاط الحكام، ويتَّفق من عاصره على صدقه وأمانته وإخلاصه، وليس هناك من يقدح في أخلاقه، وتظهر أمانته العلميَّة جلياً في مؤلفاته ومروياته عن شيوخه، حيث حرص أيم الحرص على نقل أقوالهم بالنص، وإن نقل آرائهم بكلام من عنده نوَّه على ذلك. غير أنَّ هناك اتجاه لدى باحثين معاصرين أنَّ ابن جنِّي كان يُصانع البويهيين في عقيدته، ويظهر لهم بمظهر الشيعي زيفاً، بينما هو باقٍ على سُنِّيته وليس بشيعي.

ومن عادات ابن جني في الحديث أن يميل بشفتيه ويُكثِر من تحريك يديه، ويُفسِّر محمد النجار هذه العادة بطبيعة ابن جني المألوفة في كتبه حيث يسعى حثيثاً لايصال المعنى وتوكيده بشتى السبل، فهو يستعمل الإشارة بيديه ويُحرِّك شفتيه في إطناب وتكرار حتى يلفت انتباه السامع إلى حديثه. ويحتمل النجار أيضًا أنَّ ابن جني عانى لُكنة في لسانه أخذها من أعجميَّة أبيه.

كان ابن جني فخوراً بنفسه، شديد الإعجاب بمنجزاته ومؤلفاته، ويتحدث بإسهاب عن حسنات كتبه وتميزها عن غيرها، فيقول عند حديثه عن كتابه "الخصائص": «واعتقادي فيه أنه من أشرف ما صُنِّف في علم العرب، وأذهبه في طريق القياس والنظر، وأعوده عليه بالحيطة والصون، وآخذه له من حصة التوقير والأون، وأجمعه للأدلة»، وكثيراً ما يردِّد في كتبه أنَّها تناقش وتفتح أبواباً لم يتحدث فيها أحد من العلماء السابقين، فيقول في باب ترافع الأحكام: «لم أر لأحد من أصحابنا فيه رسماً، ولا نقلوا إلينا فيه ذكراً»، ويقول في موضعٍ آخر: «ولم أر أحداً من أصحابنا أشبع القول فيها هكذا»، ويقول: «فقلَّما أفصح أصحابنا هذا الإفصاح». ويرى حسام النعيمي أنَّ اعجاب ابن جني بما يكتب ليس دليلاً على الزهو والتبجح ولكنَّه يُحاط بالروح العلميَّة التي عُرِفَ بها، فهو يضع عبارة «فيما أعلم» بعد كُلِّ ادعاء بأسبقيته في التأليف حول موضوع ما، ويظهر تواضعه في اعترافه بتأثير شيوخه ومعلميه فيما يُقدِّمه من آراء وأطروحات جديدة عندما قال: «فإن أصحابنا لم يشبعوا القول فيه على ما أوردته الآن، وإن كُنَّا بحمد الله بهم نقتدي، وعلى أمثلتهم نحتذي».

في بعض الأحيان يقسو ابن جني عند ردِّه آراءً مخالفةً يعتقد ببطلانها، فيعمد إلى أسلوب تهكمي فيه قدر من السخرية والاستهزاء، فيقول عند رده لما ذهب إليه ثعلب من أنَّ حرف الباء في كلمة "زغدب" زائدٌ وأصل الكلمة "زغد": «ومن طريف ما يحكى من أمر الباء، أن أحمد بن يحيى قال في قول العجاج: يمد زأرا وهديرا زغدبا، أنَّ الباء فيه زائدة، وذلك أنه لما رآهم يقولون هدير زغد وزغدب اعتقد زيادة الباء في زغدب، وهذا تعجرف منه وسوء اعتقاد، ويلزم من هذا أن تكون الراء في سبطر ودمثر زائدة لقولهم سبط ودمث، وسبيل ما كانت هذه حاله ألا يحفل به ولا يتشاغل بإفساده». ويعلِّق حول بعض الآراء المنادية بجواز الابتداء بحرف ساكن: «وليس لقول من جوّز الابتداء بالساكن من القدر ما يُتشاغل بإفساده، وإنما سبيله في هذا سبيل من شك في المشاهدات من السوفسطية ومن ليس بكامل العقل».

هيئته

لا يُعرَفُ عن سمات ابن جنِّي الخِلقية كثيراً، ولا تنقل لنا كتب التراجم صورةً واضحةً عنه، ولا نعلم سوى أنَّه أخذ عن أبيه الرومي شعره الأشقر، ويغلب الظن كونه قوقازي أبيض اللون، ويصف أبو بكر المصحفي ابن جِنِّي بقوله أنَّ فيه بعضاً من التركيَّة يُرجِّح فاضل السامرائي أن تكون الروميَّة، ومن الثابت أنَّ ابن جني فقد إحدى عينيه، ويتكرَّر ذكر عَورِه في أكثر من مصدر ورواية، حتى أنَّه يذكر ذلك بنفسه في شعره، فيقول:


ويُختَلف حول نسبة هذا البيت إلى ابن جني، فهناك من ينسبه إلى أبي منصور الديلمي، وهو ما دفع عبد الله أمين إلى التشكيك في كونه أعوراً. ويرُدُّ محمد النجار وفاضل السامرائي عليه بالتذكير أنَّ هذه القصيدة ليست وحدها التي تنصُّ على فقدانه لإحدى عينيه، حيث ذكر شهاب الدين العمري في "مسالك الأبصار" عن ابن جني: «وناهيك به من أعور عينه نضَّاخة، وأرضه مِمَّا تنبت سوَّاخة»، وترجم له صلاح الدين الصفدي في كتابه "الشعور بالعُور"، وعندما حصل خلافٌ بين ابن جني وأبي نصر بشر بن هارون حول معنى كلمة شيطان، هجاه بشر وعَيَّره بعوره، فقال في ابن جني:


عقيدته الدينية

عقيدة ابن جنِّي وآراؤه الدينية يشوبها الغموض، وظلَّت موضع خلاف بين المؤرِّخين القدامى وكذلك الباحثين المعاصرين، ومِمَّا لا شكَّ فيه أنَّه كان مسلماً، ويزعم كُلٌّ من المؤرِّخين السُنَّة والشيعة انتماء ابن جني إلى طائفتهم، وهناك دلائل تؤيد زعمَ كُلاً من الطرفين.

شيعيته

يعتقد عددٌ من المؤرِّخون الشيعة أنَّ ابن جني كان شيعياً، ومِمَّن يذهب إلى أنَّ ابن جني كان متشيعاً محسن الأمين العاملي، حيث ترجم له في كتابه "أعيان الشيعة"، وكذلك آغا بزرك الطهراني الذي ذكر "الخصائص" لابن جني في كتابه "الذريعة إلى تصانيف الشيعة"، والسيد حسن الصدر في كتابه "تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام".

وهناك دلائل كثيرة تؤيِّد حقيقة كونه متشيعاً، منها إلحاقه صيغة الصلاة بعد ذكر علي بن أبي طالب، وهو أمر معهود في الأدبيات الشيعية، فيقول: «ومنه قول علي - صلوات الله عليه - إلى الله أشكو عجزي وبجري»، وكذلك يُلحقُه بالتسليم عليه، فيقول: «ومن كلام ابن عباس في صفة أمير المؤمنين عليهما السلام [...]»، والتسليم على علي من عادات الشيعة أيضًا، ويُصلِّي كذلك على الحسن، فيقول: «قال الحسن - صلوات الله عليه - لرجل [...]»، ويُصلِّي كذلك على كامل أهل البيت، فيقول: «وصلى الله على صفوته محمد وآله المنتجبين عليه وعليهم السلام أجمعين»، والصلاة المعهودة عند الشيعة على أهل البيت تكون بعطف كلمة «آل» على محمد بحرف الواو، وهو الأسلوب المتَّبع في صلاة ابن جني، بينما يميل السنة إلى إدخال حرف الجر «على» قبل «آل». ومن الأدلة على تشيعه صِلاته الوثيقة وعلاقاته الوطيدة بأعلام الشيعة ورجالها في زمنه، فعندما دخل ابن جني مدينة واسط نزل في دار الشريف أبي علي الجواني، وهو من أئمة الشيعة في زمنه ونقيب العلويين في واسط، وربطته علاقة صداقة قوية بالشريف الرضي، وهو من أهم علماء الشيعة وأدبائهم ونقيب العلويين حتى وفاته، وتقرَّب ابن جني من البويهيين، وهم سلالة ملكية شيعية عملت على نشر التشيع في العراق، وظلَّ في صحبتهم حتى وفاته. وهناك رواية عنه قد يُفهم منها تشيعه، وهي «أنَّ علي بن عيسى الربعي كان على شاطئ دجلة في يومٍ شديد الحر، فاجتاز عليه الشريف المرتضى ومعه ابن جني، وعليهما مظلَّة تظلُّهما من الشمس. فهتف الربعي بالمرتضى، وقال له: ما أحسن هذا التشيُّع! علي [يُشِير إلى نفسه] تتقلَّى كبده في الشمس من شِدَّة الحرِّ، وعثمان [يشير إلى ابن جني] عندك في الظلِّ لئلا تصيبه الشمس. فقال المرتضى للملَّاح: أسرع قبل أن يسبَّنا». ويرى عبد الفتاح الشلبي أنَّ هذه الرواية دليلاً على تشيُّع ابن جني، وكذلك يفعل محمد النجار، بينما يستنتج محققو "سر صناعة الإعراب" من هذه الرواية أنَّ ابن جني لم يكن شيعياً، استناداً على تصرُّفات الربعي تجاه ابن جني بخصوص عدم أهليَّته بمصاحبة رجل دين شيعي، وأنَّه هو الأحق بهذه الصحبة.

سُنِّيته

في مقابل الآراء التي تذهب إلى تشيّعه هناك من يؤكِّد أنَّه كان سُنِّياً، ويسعى القائلون بسُنِّيته إلى تفنيد الأدلَّة على تشيُّعه، فابن جني عندما يُلحق الصلاة على علي والحسن بطريقة الشيعة فهو أيضًا يترضَّى عنهما بطريقة أهل السُنَّة، فيقول: «يُعلَمُ أنَّ أمير المؤنين علياً - رضي الله عنه - هو البادئه والمُنَبِّه عليه»، ويقول: «ومنه قراءة الحسن رضي الله عنه». ومن الأدلَّة على سُنِّيته الصلاة على الصحابة - جميعهم - مع النبي، فيقول: «والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليماً»، وترحُّمه على عمر بن الخطاب، فيقول: «وقرأ عمر بن الخطاب رحمة الله عليه ورضوانه»، وترضِّيه على معاوية، فيقول: «وحُكِيَ عن معاوية - رضي الله عنه - أنَّه قال لرجلٍ [...]»، ويترحَّم على أبي حنيفة[؟] وهو أحد أئمة المذاهب السُنِّية الأربعة في الفقه، فيقول: «هذا موضع كان أبو حنيفة - رحمه الله - يراه ويأخذ به»، ويترحَّم على تلامذته وأتباعه، فيقول: «وقُلتُ مرةً لأبي بكر أحمد بن علي الرازي - رحمه الله - [...]»، ويقول: «وكُتُب محمد بن الحسن - رحمه الله - إنَّما ينتزع أصحابنا منها العلل»، ويقصد علل الفقه، وهذان الاثنان عُرِفا بالتزامهما بمذهب أبي حنيفة، ولابن جني مخطوط في مكتبة الفاتيكان بعنوان "مسألتان من كتاب الإيمان لمحمد بن الحسن الشيباني الفقيه الحنفي"، ويفصُلُ ابن جني في بعض الأحيان بين الصلاة على النبي وعلى آله بحرف جر على عادة أهل السنة، فيقول: «وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم»، ويذكر وجوب غسل الرجلين أثناء الوضوء وهو مذهب أهل السنة بينما يذهب الشيعة إلى مسحها فقط.

ويذهب أغلب من قال بسنِّيته إلى أنَّه على مذهب أبي حنيفة، والأدلة على ميوله نحو هذا المذهب كثيرة سبق ذكرها، ويلاحِظ محمد النجار أنَّ ابن جنِّي يقتبس من كتب الفقه الحنفي وأصوله في تعامله مع المسائل اللغوية والنحوية، ويسجِّل أمثلةً ينتصر فيها ابن جني للمذهب الحنفي على الشافعي في مسائل لغوية، يقول ابن جني: «وأمَّا ما يحكيه أصحاب الشافعي عنه من أنَّ الباء للتبعيض شيء لا يعرفه أصحابنا، ولا ورد به ثُبُت». ويعتقد النجار أنَّ ابن جني كان سُنِّياً، وفي محاولةٍ لتفسير تقاربه مع الشيعة وأخذه من أساليبهم وآرائهم تصوَّر أنَّه كان يُصانع الشيعة في تلك المسائل، من باب حُسن المعاملة ليتقرَّب إليهم ويُوطِّد علاقته بالبوهيين، وتابعه في هذا الاعتقاد فاضل السامرائي، وينتقد حسام النعيمي ما ذهب إليه النجار والسامرائي، ويعتقد أنَّه كان سُنِّياً بلا مُصانعة، ويسوق عدد من النصوص التي تؤكِّد سُنِّيته، ويُشدِّد أنَّ حُبَّ علي وأبنائه من شأن كُلِّ مسلم وليس دليلاً على تشيُّعه.

اعتزاله

وسواء كان ابن جني سنياً أو شيعياً فمن المتفق عليه أنَّه كان معتزلياً، وأوَّل إشارة إلى اعتزاله عند جلال الدين السيوطي في "المُزهِر": «ابن جني كان معتزلياً، كشيخه أبي علي». وهناك عدد من الأدلَّة تؤيد حقيقة اعتزاله، ويذكر محمد النجار عدد من الأدلَّة على اعتزاله، ومنها اعتقاد ابن جني بمبدأ المعتزلة في خلق الإنسان لأفعاله، فيقول في "الخصائص": «نحو خلق الله السماء والأرض وما كان مثله، ألا ترى أنَّه - عزَّ اسمه - لم يكن منه بذلك خلق أفعالنا؟ ولو كان حقيقةً، لا مجازاً، لكان خالقاً للكفر والعدوان وغيرها من أفعالنا عزَّ وعلا». ويذهب إلى أنَّ الله خالق لكلامه، وهو قولٌ معتزليٌ مشهور، وعلى هذا المبدأ المعتزلي يُفسِّر الآية من سورة النساء: «وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكلِيماً». ويضيف عبده الراجحي دليلاً أخراً على اعتزاله من "المُحتَسب" حيث يُفَضِّل ابن جنِّي القراءة الشاذَّة للآية من سورة الأعراف: «قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَسَاءَ»، على القراءة المشهور للآية التي تقول: «قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ»، لأنَّ القراءة الشاذَّة تُظهِرُ العدالة الإلهية أكثر من المشهورة، ومفهوم العدل هو من أصول المعتزلة. وتأثَّر ابن جني بالاعتزال في صناعته النحوية واللغوية، فيستعير مصطلحات من المعتزلة ويوظِّفها في دراساته، ومن ذلك أنَّه وضع باباً في "الحُكم يقف بين الحكمين" يكثر فيه من تكرير عبارة "المنزلة بين المنزلتين"، والمنزلة بين المنزلتين هو واحد من أصول المعتزلة، وهو منزلة الفاسق بين المؤمن والكافر، وهذه القضيَّة هي سبب اعتزال واصل بن عطاء عن مجلس أبي الحسن البصري ومن ثمَّ نشوء فرقة المعتزلة. ويجعل فاضل السامرائي من اعتزال ابن جني مؤشِّراً على تشيُّعه الذي يجده مصطنعاً، نظراً للعلاقة التاريخية السياسية بين الاعتزال والتشيُّع. ومحمد النجار لا يجزم أنَّ ابن جني كان معتزلياً، ويضع احتمال أنَّه اقتبس منهم ما رآه صواباً، ولكنَّه لم يُلزم نفسه بالتقيُّد في كُلِّ آرائهم.

أسرته

له من الأولاد ثلاثة، وهم علي وعلاء وعالي، وجميعهم أدباء فضلاء، صحيحي الضبط وحسني الخط، وقد أشرف ابن جني نفسه على تعليمهم. وتزوَّج ابن جني في الموصل، وفيها أنجب أولاده الثلاثة. وأكثرهم شهرةً عالي، الذي سار على خطى أبيه وصار أديباً ونحوياً، ونقلَ المرويات عن أبيه وعن غيره، وأخذ عنه أبو نصر بن ماكولا وجماعةٌ، تُوفِّي عالي في سنة 147 أو 148. وروى العلاء أيضًا عن أبيه، وأخذ عنه محمد بن البركات كُتبَ ابن جنِّي، وبدوره أخذ ابن بري مؤلفات ابن جني عن محمد عن علاء. وعلى الرغم من أنَّ ابن جني يُكنَّى بأبي الفتح، لم يُسَمَّى أحدٌ من أولاده بهذ الاسم، ويُرجِّح البعض أنَّ هذه الكنية مصطنعة وكان يُكنِّى بها قبل أن يحظى بأولاده.

وفاته

تذهب الأغلبية العظمى من المصادر إلى أنَّ وفاة ابن جني كانت في يوم الخميس السابع والعشرين من شهر صفر سنة 392 من التقويم الهجري، ما يوافق الخامس عشر من يناير سنة 1002 من التقويم الميلادي، وذلك في خلافة القادر بالله، وخالفَ هذا الإجماع ابن الأثير وذهب إلى أنَّ وفاته كانت في سنة 393، وتُوفِّي ابن جني في بغداد ودُفِنَ في مقبرة الشونيزي في بغداد، وهي مقبرة للصوفيَّة تُسَمَّى مقبرة الجنيد حالياً، وقُبِر بجانب أستاذه ورفيق عمره أبي علي الفارسي. ويتردَّدُ أبو بكر البغدادي حول مكان وفاة ابن جني، فيقول: «تُوفِّي في بغداد، وقِيل بالموصل». وبعد وفاة ابن جني رثاه الشريف الرضي بقصيدة طويلة من تسعين بيتاً، منها:




 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأوامر الإلهية في الآيات القرآنية

تصريف الأفعال في اللغة الفارسية

الكلام ، والقول والحديث ... ( فروق لغوية )