صلات المنطق باللغة والنحو عند الجرجاني

....مهما يكن من شيء فقد انتفع عبد القاهر في نظريته في النظم أيما انتفاع , بما تراءى له من صلة المنطق باللغة من ناحية , ومن صلة النحو بالمنطق من ناحية أخرى, من حيث إنه بمثابة منطق خاص باللغة.
واستغل عبد القاهر ذلك إلى أقصى حد في بيان وضع اللفظ وقيمته, بالنسبة إلى المعنى ليخرج من حسية الكلام .

1- وإذا كانت وحدات اللغة هي الألفاظ المفردة فمن هنا نستطيع أن نضع أيدينا على طرف نظريته في النظم , وأن نجذب ذلك الطرف من خلال الخلط وفوضى التأليف القديم , ويرى عبد القاهر أن هذه الألفاظ ليست إلا رموزا للمعاني المفردة التي تدل عليها هذه الرموز , والإنسان يعرف مدلول اللفظ المفرد أولا , ثم يعرف هذا اللفظ الذي يدل عليه ثانيا , فالألفاظ سمات لمعانيها ولا يتصور أن تسبق الألفاظ معانيها وأن تكون أسامي الأشياء قد وضعت قبل أن تعرف معانيها فذلك ضرب من المحال .

2- والألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها فنحن إن زعمنا أن الألفاظ التي هي أوضاع اللغة إنما وضعت لتعرف معانيها في أنفسها لأدى ذلك إلى ما لا يشك عاقل في استحالته , وهو أن يكونوا قد وضعوا للأجناس الأسماء التي وضعوها لتعرف بها حتى كأنهم لو لم يكونوا قالوا : فعل يفعل , لما كنا نعرف الخبر في نفسه ومن أصله , ولو لم يكنوا قد وضعوا الحروف لكنا نجهل معانيها , فلا نعقل نفيا ولا نهيا ولا استفهاما ولا استثناء , كيف والمواضعة لاتكون ولا تتصور إلا على معلوم , فمحال أن يوضع اسم أو غير اسم لغير معلوم , ولأن المواضعة كالإشارة فكما أنك إذا قلت : خذ ذاك , لم تكن هذه الإشارة لتعرف السامع المشار إليه في نفسه ولكن ليعلم أنه المقصود من بين سائر الأشياء التي تراها وتبصرها فكذلك حكم اللفظ مع ما وضع له ومن هذا الذي يشك أنا لم نعرف الرجل والفرس والضرب والقتل إلا من أساميها ؟ لو كان لذلك مساغ في العقل لكان ينبغي إذا قيل : زيد , أن تعرف المسمى بهذا الاسم من غير أن تكون قد شاهدته أو ذكر لك بصفته , ويبدو من هذا الكلام أن عبد القاهر يرى أن العلاقة بين الألفاظ ومدلولاتها علاقة اعتباطية لا طبيعية ذاتية .

3- وإذا كانت ألفاظ اللغة لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها فمعنى ذلك أن الفكر لايتعلق بما بين معاني الكلم من العلاقات , وليست هذه العلاقات إلا معاني النحو , فلا يقوم في وهم ولا يصح أن يتفكر متفكر في معنى فعل من غير أن يريد إعماله في اسم ولا أن يتفكر في معنى اسم من غير أن يريد إعمال فعل فيه وجعله فاعلا له أو مفعولا , أو يريد منه حكما سوىذلك من الأحكام مثل أن يريد جعله مبتدأ أو خبرا أو صفة أو حالا أو ما شاكل ذلك . وإن أردت ذلك عيانا فاعمد إلى أي كلام شئت وأزل أجزاءه عن مواضعها , وضعها وضعا يمتنع معه دخول شيء من معاني النحو فيها فقل في : قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ....( من نبك قفا حبيب ذكرى ومنزل ) ثم انظر هل يتعلق منك فكر كلمة منها ؟ وخذ بيت بشار بن برد مثلا :
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا = وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
وانظر هل يتصور أن يكون بشار قد أخطر معاني هذه الكلم بباله أفرادا عارية من معاني النحو التي نراها فيها , وأن يكون قد وقع ( كأن ) في نفسه من غير أن يكون قصد إيقاع التشبيه منه على شيء , وأن يكون فكر في نفسه من غير أن يكون فكر في مثار النقع من غير أن يكون أراد إضافة الأول إلى الثاني , وفكر في فوق رؤوسنا من غير أن يكون قد قصد أن يضيف فوق إلى الرؤوس وفي الأسياف من دون أن يكون أراد عطفها بالواو على مثار , وفي الواو من دون أن يكون أراد العطف بها , وأن يكون كذلك فكر في الليل من دون أن يكون أراد أن يجعله خبرا لكأن , وفي تهاوى كواكبه من دون أن يكون أراد أن يجعل تهاوى فعلا للكواكب ثم يجعل الجملة صفة لليل , ليتم الذي أراد من التشبيه .؟ أم لم تخطر هذه الأشياء بباله إلا مرادا فيها هذه الأحكام والمعاني التي نراها فيها ؟ وليت شعري كيف يتصور وقوع قصد منك إلى معنى كلمة من دون أن تريد تعليقها بمعنى كلمة أخرى ؟ ومعنى الكلم أن تعلم السامع شيئا لا يعلمه ومعلوم أنك أيها المتكلم لست تقصد أت تعلم السامع معاني الكلم المفردة التي تكلمه بها فلا تقول : خرج زيد . لتعلمه معنى خروج في اللغة ومعنى زيد . كيف ؟ ومحال أن تكلمه بألفاظ لا يعرف هو معانيها كما تعرف . ولهذا لم يكن الفعل وحده من دون الاسم , ولا الاسم وحده من دون اسم آخر أو فعل كلاما , وكنت قلت ( خرج ) ولم تأت باسم, ولا قدرت فيه ضمير الشيء , أو قلت : زيد ولم تأت بفعل , ولا اسم آخر ولم تضمره في نفسك , كان ذلك وصوتا تصوته سواء .إن معاني النحو إذن هي التي يتعلق بها الفكر وهو تمثل العلاقات بين معاني الكلم في النفس وإليها يستند ترتيب هذه المعاني في النفس فإذا أردت أن تقول : زيد ضرب عمرا يوم الجمعة تأديبا له فمعنى ذلك أنك قصدت إلى ضرب فجعلته خبرا عن زيد و وجعلت الضرب الذي أخبرت بوقوعه منه واقعا على عمرو , وجعلت يوم الجمعة زمانه الذي وقع فيه , وجعلت التأديب غرضه الذي فعل الضرب من أجله .
وهذه العلاقات كلها هي معاني النحو رتبت معاني الكلم على أساسها في النفس ورتبت الكلم على نسق معانيها في الخارج ومن هنا كانت الألفاظ في الخارج باعتبارها دالة على معانيها تربطها العلاقات التي هي معاني النحو ولا يتصور أن يكون للفظة تعلق بلفظة أخرى من غير أن يعتبر حال معنى هذه مع معنى تلك و ويراعي هناك أمر يصل إحداهما بالأخرى كمراعاة كون ( نبك ) جوابا للأمر في قوله ( قفا نبك ) وكأن تعمد إلى اسمين فتجعل أحدهما خبرا عن الآخر , أو تتبع الاسم اسما على أن يكون الثاني صفة للأول لأو تأكيدا له , أو بدلا منه , أو تجيء باسم بعد تمام كلامك على أن يكون التالي صفة له أو حالا أو تمييزا أو تتوخى في كلام هو لإثبات معنى أن يصير نفيا أو استفهاما أو تمنيا ؛ فتدخل عليه الحروف الموضوعة لذلك أو تريد في فعلين أن تجعل أحدهما شرطا في الآخر فتجيء بهما بعد الحرف , وعلى هذا القياس ذلك هو معنى النظم , فلا نظم في الكلم , ولا ترتيب إلا بأن يصنع بها هذا الصنيع ونحوه .
وقد لخص عبد القاهر علاقات الكلم الجارية على قانون علم النحو والتي بها يكون النظم فقال : ( الكلم اسم وفعل وحرف , وللتعليق فيما بينهما طرق معلومة , وهو لايعدو ثلاثة أقسام ؛ تعلق اسم باسم , وتعلق اسم بفعل , وتعلق حرف بهما .) وفصل عبد القاهر هذه الطرق على غرار ماهو معروف في علم النحو .

4- ويقول عبد القاهر إنه قد يعترض معترض فيقول : لو كان النظم لايكون إلا في معاني النحو لكان البدوي الذي لم يسمع بالنحو قط , ولم يعرف المبتدأ و الخبر وشيئا مما يذكرونه لا يتأتى له كلام , وإنا لنراه يأتي في كلامه بنظم لا يحسنه المتقدم في علم النحو . والجواب على ذلك كما يقول عبد القاهر : هو أن الاعتبار بمعرفة مدلول العبارات لا بمعرفة العبارات فإذا عرف البدوي الفرق بين أن يقول : جاءني زيد راكبا , وبين قوله : جاءني زيد الراكب . لم يضره ألا يعرف أنه إذا قال : راكبا كانت حالا كما يقول فيها النحويون , وإذا قال الراكب إنه صفة جارية على زيد , وإذا عرف في قوله : زيد منطلق , أن زيدا مخبر عنه ومنطلق خبر لم يضره ألا يعلم أنا نسمي زيدا مبتدأ , وإذا عرف في قولنا : ضربته تأديبا له أن المعنى في التأديب أنه غرض من الضرب , وأن ضربه ليتأدب لم يضره ألا يعلم أنا نسمي التأديب ( مفعولا به ) ولو كان عدم العلم بهذه العبارات يمنعه العلم بما وضعناه له وأردناه بها , لكان ينبغي ألا يكون له سبيل إلى بيان أغراضه وألا يفصل فيما يتكلم به بين نفي وإثبات وبين (ما) إذا كانت استفهاما , وبينه إذا كان بمعنى الذي , وإذا كان بمعنى المجازاة لأنه لم يسمع عبارتنا في الفرق بين هذه المعاني , أترى أن الأعرابي حين سمع المؤذن يقول : أشهد أن محمدا رسولَ الله
بالنصب فأنكر عليه , وقال : صنع ماذا ؟! أنكر عليه عن غير علم أن النصب يخرجه عن أن يكون خبرا ويجعله والأول في حكم واحد , وأنه إذا صار والأول في حكم واحد احتيج إلى اسم آخر أو فعل حتى يكون كلاما , وحتى يكون قد ذكر ماله فائدة ؟ إن كان لم يعلم ذلك فلماذا قال : صنع ماذا ؟! فطلب ما يجعله خبرا . ويلزم على هذا الاعتراض أن يكون امرؤ القيس حيت قال : قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل , قاله وهو لايعلم ما نعنيه بقولنا : إن قفا أمرٌ ونبك جواب الأمر , وذكرى مضاف إلى حبيب ومنزل معطوف على حبيب , وأن تكون هذه الألفاظ رتبت له من غير قصد منه إلى هذه المعاني , وذلك يوجب أن يكون قفا (نبك ) بالجزم من غير أن يكون عرف معنى يوجب الجزم , وأتى به مؤخرا عن قفا , من غير أن يعرف أن لتأخيره موجبا سوى طلب الوزن في البيت و ذلك غير معقول بالضرورة ؛ فالعرب القدماء كانوا يعرفون النحو معرفة عملية أو فنية كما يقول الدكتور حسن عون , وإن كانوا لا يعرفونه معرفة علمية فهذه الطرق الخاصة بالأداء في اللغة العربية قد التزمت باطراد في تراكيبها وأساليبها , ومرنت عليها ألسنة العرب , وتمكنت من طباعهم قبل أن توضع لها القواعد النحوية المجردة , وضعا علميا وتدرس دراسة مستقلة لاتعرف وتحتذى.

5- وإذا كان النظم درجات يمكن أن ترد إلى درجتين أساسيتين الأولى لا تكاد تتعدى مرحلة الصحة والصواب والأخرى تتعدى هذه المرحلة إلى مناط الفضيلة والمزية , فليس النظم على كلتا الدرجتين كما يقول عبد القاهر الجرجاني إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخل منها بشيء , وذلك أنا لانعلم شيئا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه فينظر في الخبر إلى الوجوه التي تراها في قولك : زيد منطلق , وزيد ينطلق , وينطلق زيد , ومنطلق زيد , وزيد المنطلق , والمنطق زيد , وزيد هو المنطلق , وزيد هو منطلق ,وفي الشرط والجزاء إلى الوجوه التي تراها في قولك : إن تخرج أخرج , وإن خرجت خرجت ,وإن تخرج فأنا خارج , وأنا خارج إن خرجت , وأنا إن خرجت خارج , وفي الحال إلى الوجوه التي تراها في قولك : جاء زيد مسرعا , وجاءني وهو مسرع , أو وهو يسرع , وجاءني قد أسرع , وجاءني وقد أسرع , فيعرف لكل من ذلك موضعه ويجيء به حيث ينبغي له , وينظر في الحروف التي تشترك في معنى ثم ينفرد كل واحد منها بخصوصية في ذلك المعنى فيضع كلا من ذلك في خاص معناه نحو أن يجيء بما في نفي الحال , وبلا إذا أراد نفي الاستقبال , وبإن فيما يترجح بين أن يكون وألا يكون , وبإذا فيما علم أنه كائن , وينظر في الجمل التي تسردفيعرف موضع الفصل فيها من موضع الوصل ثم يعرف فيما حقه الوصل موضع الواو من موضع الفاء وموضع الفاء من موضع ثم وموضع أو من موضع أم وموضع لكن من موضع بل , ويتصرف في التعريف والتنكير والتقديم والتأخير في الكلام كله وفي الحذف والتكرار والإضمار والإظهار فيضع كلا من ذلك مكانه , ويستعمله على الصحة وعلى ما ينبغي له ز هذا هو السبيل فلست بواجدا شيئا يرجع صوابه إن كان صوابا وخطؤه إن كان خطأ إلى النظم , ويدخل تحت هذا الاسم ؛ إلا وهو معنى من معاني النحو قد أصيب موضعه ووضع في حقه , أو عومل بخلاف هذه المعاملة فأزيل عن موضعه واستعمل في غير ما ينبغي له فلا ترى كلاما قد وصف بصحة نظمه أو فساده أو وصف بمزية وفضل فيه إلا وكان مرجع تلك الصحة وذلك الفساد , وتلك المزية وذلك الفضل إلى معاني النحو وأحكامه وإلا وجدت ذلك الوصف يدخل في أصل من أصول النحو ومتصل بباب من أبوابه , ومن أمثلة فساد النظم قول الفرزدق :
وما مثله في الناس إلا مملكًا = أبو أمه حيا أبوه يقاربه
وقول المتنبي :
ولذا اسم أغطية العيون جفونها = من أنها عمل السيوف عوامل
وقوله :
الطيب أنت إذا أصابك طيبه = والماء أنت إذا اغتسلت الغاسل
وقوله :
وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه = بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه
وقول أبي تمام :
ثانيه في كبد السماء ولم يكن = كاثنين ثان إذ هما في الغار
وقوله :
يدي لمن شاء رهن لم يذق جرعا = من راحتيك درى ما الصاب والعسل
فها أنت ترى ذلك الفساد قد نجم من أن الشاعر صنع في تقديم أو تأخير أو حذف أو إضمار أو غير ذلك ماليس له أن يصنعه , وما لا يسوغ ولا يصح على أصول علم النحو و وإذا ثبت أن سبب فساد النظم واختلاله ألا يعمل بقوانين علم النحو ثبت أن صحته أن يعمل عليها , وكذلك ترجع المزية والفضل في النظم إلى قوانين علم النحو .
اعمد إلى قول البحتري :
بلونا ضرائب من قد نرى = فما إن رأينا لفتح ضريبا
هو المرء أبدت له الحادثات عزما وشيكا ورأيا صليبا
تنقل في خلقي سؤدد سماحا مُرَجَّى وبأسا مهيبا
فالكسيف إن جئته صارخا وكالبحر إن جئته مستثيبا
فإذا رأيت هذه الأبيات قد راقتك , وهزت نفسك فليس السبب في ذلك إلاأنه قدم وأخر , وعرف ونكر , وحذف وأضمر , وأعاد وكرر , وتوخى على الجملة وجها من الوجوه التي يقتضيها علم النحو , فأصاب في كل ذلك , ثم لطف موضع صوابه وأتى ما أتى ما يوجب الفضيلة , أفلا ترى أن أول سؤدد بتنكير السؤدد وإضافة الخلقين له ثم قوله فكالسيف وعطفه بالفاء مع حذف المبتدأ , لأن المعنى لامحالة فهو كالسيف ثم تكريره الكاف في قوله وكالبحر ثم قرن إلى كل واحد من التشبيهين شرطا جوابه فيه .ثم أن أخرج من كل واحد من الشرطين حالا على مثال ما أخرج من الآخر , وذلك قوله : صارخا هناك , ومستثيبا هنا ....
وإن أردت أظهر أمرا في هذا المعنى فانظر إلى قول ابراهيم بن العباس :
فلو إذ نبا دهر وأنكر صاحب = وسلط أعداء وغاب نصير
تكون عن الأهواز داري بنجوة = ولكن مقادير جرت وأمور
وإني لأرجو بعد هذا محمدا = لأفضل ما يرجى أخ ووزير
فإنك ترى من الرونق والطلاوة , ومن الحسن والحلاوة , ثم تتفقد السبب في ذلك متجده إنما كان من أجل تقديم الظرف الذي هو ( إذ نبا ) على عامله الذي هو ( تكون ) ومن أجل أن قال : تكون , ولم يقل : كان , ثم لتنكير الدهر وتعميم هذا التنكير في جميع ما أتى به من بعد ثم قوله : وأنكر صاحب ولم يقل : وأنكرت صاحبا .

6- ويقول عبد القاهر إن الاستعارة , والكناية , والتمثيل , وسائر ضروب المجاز من مقتضيات النظم , وعنها يحدث وبها يكون لنه لا يتصور أن يدخل شيء منها في الكلم وهي أفراد لم يتوخ فيما بينها حكم من احكام النحو فلا يتصورها هنا فعل أو اسم قد دخلته الاستعارة من دون أن يكون قد ألف مع غيره أفلا ترى أنه إن قدر في اشتعل من قوله تعالى L واشتعل الرأس شيبا ) ألا يكون الرأس فاعر له , ويكون شيبا منصوبا عنه على التمييز لم يتصور أن يكون مستعارا ؟ وهكذا السبيل في نظائر الاستعارة ويقول : إن المزايا التي تجدها لهذه الأجناس على الكلام المتروك , على ظاهره ليست في أنفس المعاني التي يقصد المتكلم بخره غليها ولكنها في طريق إثباته لها وتقريره فإذا سمعتهم يقولون إن من شأن هذه الأجناس أن تكسب المعاني مزية وفضلا وتوجب لها شرفا ونبلا وأن تفخمها في نفوس السامعين فإنهم لا يعنون أنفس المعاني التي يقصد المتكلم بخبره إليها كالقرى في جم الرماد والشجاعة في 0 رأيت أسدا ) والتردد في الرأي في ( أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى ) إنما يعنون إثباتها لما تثبت له , ويخبر بها عنه فإذا جعلوا للكناية مزية على التصريح لم يجعلوا تلك المزية في المعنى المكني عنه ولكن في طريق إثبات ذلك المعنى , وذلك أنا نعلم أن المعاني التي يقصد الخبر بها لا تتغير في أنفسها بأن يكني عنها بمعان سواها وتترك الألفاظ التي لها في اللغة ومن هذا الذي يشك أن يشك أن معنى طول القامة وكثرة القرى لا يتغيران بأن يكني عنهما بطول النجاد أو بكثرة الرماد من القدر ؟ وتقدير التغيير فيها يؤدي إلى ألا تكون الكناية عنهما ولكن عن غيرهما . والسبب في أن كان للإثبات إذا كان من طريق الكناية مزية لا تكون إذا كان عن طريق التصريح أنك إذا كنيت عن كثرة القرى بكثرة رماد القدر كنت قد أثبت كثرة القرى بإثبات شاهدها ودليلها وما هو علم على وجودها , وذلك لا محالة يكون أبلغ من لإثباتها بنفسها , وذلك لأنه يكون سبيلها حينئذ سبيل الدعوى يكون مع شاهد والسبب في أن كانت الاستعارة أبلغ من الحقيقة أنك إذا دعيت لرجل أنه أسد كان ذلك أبلغ وأشد في تسويته بالأسد في الشجاعة فمحال أن يكون من الأسود ثم لا تكون له شجاعة الأسود . وكذلك الحكم في التمثيل فإذا قلت أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى كان أبلغ في إثبات التردد له من أن تقول : أنت كمن يقدم رجلا ويؤخر أخرى وإذا كانت المزية في هذه الأجناس راجعة إلى طريق إثبات المعاني المستفادة منها لا إلى أنفس هذه المعاني كانت المزية في هذه الأجناس راجعة إلى الأحكام التي تحدث بالتأليف والتركيب .

7- ويقول عبد القاهر :إن في الاستعارة ما لا يمكن بيانه إلا بعد العلم بالنظم والوقوف على حقيقته , ومن ذلك قوله تعالى L واشتعل الرأس شيبا ) فالمزية الجليلة في هذا لا ترجع إلى مجرد الاستعارة ولكنها ترجع إلى المجيء بالاستعارة على طريق ما يسند فيه الفعل إلى الشيء وهو في المعنى لما هو من سببه فيرفع بالفعل ما يسند إليه ويؤتى بالذي له الفعل في المعنى منصوبا بعده مبينا أن ذلك الإسناد , وتلك النسبة غلى ذلك الأول إنما كان من أجل هذا الثاني ولما بينه وبينه من الاتصال والملابسة كقولهم : طاب زيد نفسا , وقرَّ عمرو عينا , وتصبب عرقا , وكرم أصلا , وحسن وجها وأشباه ذلك مما تجد الفعل فيه منقولا عن الشيء إلى ما ذلك الشيء من سببه , وذلك أن اشتعل للشيب في المعنى وإن كان هو للرأس في اللفظ كما أن طاب للنفس وقر للعين وتصبب للعرق وأن أسند إلى ما أسند إليه ـ والسر في بلاغة النظم الذي جاءت عليه استعارة اشتعل للشيب أنه يفيد مع لمعان الشيب في الرأس الذي هو أصل المعنى الشمول , وأنه شاع فيه وأخذه من نواحيه وأنه قد استقر به وعم جملته حتى لم يبق من السواد شيء أو لم يبق منه إلا ملا يتعد به , وهذا ما لايكون إذا قبل اشتعل شيب الرأس أو الشيب في الرأس بل لا يوجب اللفظ حينئذ أكثر من ظهوره فيه على الجملة ونظير ذلك أن تقول ك اشتعل البيت نارا , فيكون المعنى أن النار وقعت فيه وقوع الشمول وأنها قد استولت عليه وأخذت في طرفيه ووسطه وتقول اشتعلت النار في البيت فلا يفيد ذلك بل لا يقتضي أكثر من وقوعها فيه وأصابتها جانبا منه فأما الشمول وأن تكون قد استولت على البيت وابتزته فلا يعقل من اللفظ البتة ونظير ذلك في التنزيل قوله عز وجل L وفجرنا الأرض عيونا ) فالتفجير للعيون في المعنى وأوقع على الأرض في اللفظ كما أسند هناك الاشتعال إلى الرأس وقد أفاد ذلك معنى الشمول هاهنا كما استفيد معنى الشمول هناك . ذلك أنه قد أفاد أن الأرض قد كانت صارت عيونا كلها وأن الماء قد كان يفور من كل مكان فيها ولو أجرىاللفظ على ظاهره فقيل: وفجرنا عيون الأرض أوالعيون في الأرض , لم يفد ذلك ولم يدل عليه ولكان المفهوم منه أن الماء قد كار فار من عيون متفرقة في الأرض وتبجس من أماكن منها واعلم أن في الآية الأولى شيئا آخر من جنس النظم ؛ وهو تعريف الرأس بالألف واللام وإفادة معنى الإضافة من غير إضافة وهو أحد ما أوجب المزية , ولو قيل واشتعل رأسي فصرح بالإضافة لذهب بعض الحسن . وإذا كانت كل من درجتي الصحة والمزية في النظم راجعة إلى معاني النحو كان معنى ذلك أن معاني النحو لدى عبد القاهر درجتان درجة تجري فيها هذه المعاني في حدود الصحة المقررة في علم النحو بالمعنى الشائع ودرجة تجري فيها هذه المعاني في ميدان التخير وبعباة أخرى في ميدان النحو البلاغي الذي فتحه عبد القاهر , والذي تضمنته نظريته في النظم .

8- وإذا كان عبد القاهر بصدد الكلام عن إعجاز القرآن الكريم , وإذا كان الإعجاز في رأيه مناطه النظم فإنه لا يعينه من درجات النظم ما لا يتعدى دائرة الصحة وإذن فهو لايعنيه مجرد نظم الكلام على مقتضى معاني النحو ووجوهه , فيقتصر نظمخ على حدود الصحة وإلا فأن هذه المعاني وتلك الوجوه من التعلق التي هي محصول النظم موجودة على حقائقها وعلى الصحة و وكما ينبغي في منثور كلام العرب ومنظومه وقد استعملها العرب وتصرفوا فيها وكملوا بمعرفتها وكانت حقائق لا تتبدل ولا تختلف بها الحال إذ لا يكون للاسم بكونه خبرا لمبتدأ أو صفة لموصوف أو حالا لذي حال أو فاعلا أو مفعولا لفعل في كلام حقيقة هي خلاف حقيقته في كلام آخر إنما الذي يعنيه من درجات النظم ما تعدى دائرة الصحة إلى دائرة الفضائل والمزايا وذلك ليتسنى له أن يبين عن هذا الذي تجدد بالقرآن من عظيم المزية وباهر الفضل والعجيب من الرصف حتى أعجز الخلق قاطبة , وحتى قهر من البلغاء والفصحاء القوي والقدر .

9- ودرجات النظم التي تتعدى دائرة الصحة إلى دائرة الفضائل والمزايا مرجعها عبد القاهر حسن التخير في دائرة الحدود التي حدها النحو وإلى إهدار الناظم إلى الأولى والأفضل , وما يلائم المقام من معاني النحو فليس للمعاني النحوية التي يجري نظم الكلام عليها فضيلة في ذاتها من حيث هي على الإطلاق ولكن تعرض لها المزية بحسب موقع بعضها من بعض واستعمال بعضها مع بعض تفسير هذا أنه ليس إذا راقك التفكير في سؤدد من قوله : تنقل في خلقي سؤدد ..... وفي دهر من قوله : فلو إذ نبا دهر , فإنه يجب أن يروقك أبدا وفي كل شيء ولا إذا استحسنت لفظ مالم يسم فاعله في قوله ك وأنكر صاحب , فإنه ينبغي ألا تراه في مكان إلا أعطيته مثل استحسانك هاهنا بل ليس من فضل ولا مزية إلا بحسب الموضع وبحسب المعنى الذي تريد والغرض الذي تؤم , ومن أجل ذلك لا يكفيك إذا أردت أن تأتي بالنظم الحسن أن تكون عالما بمعاني النحو وإنما يجب أن تكون عالما بمواضعها ووجوهها والفروق بينها وما ينبغي أن تضع فيها فليس الفضل للعلم بأن الواو للجمع والفاء للتعقيب بغير تراخ وثم له بشرط التراخي وإن لكذا وإذا لكذا , إنما مرجع الفضل إذا نظمت وألفت رسالة أن تحسن التخير , وأن تعرف لكل من ذلك موضعه.

10- ولقد كان من الناس كما حدثنا عبد القاهر, وكما ذكرنا من قبل من يحصرون علم البيان في الإحاطة باللغة والإلمام بها , ويبنون على ذلك أن العرب لهم الفضل والمزية في حسن النظم والتأليف الذي هو ثمرة علم البيان وأن لهم في ذلك شاوا لا يبلغه الدخلاء في كلامهم , والمولدون معللين ذلك بأن اللغة لهم بالطبع , ولنا بالتكلف ولن يبلغ الدخيل في اللغة والألسنة مبلغ من نشأ عليها وبدأ من أول خلقه بها , ولقد كان القدمون من علماء اللغة يرون أمر الكلام بالعربية يرتبط ارتباطا وثيقا بالجنس العربي , ولذا ينكرون على الفارسي , أو إمكان إتقان هذه اللغة كما يتقنها أهلوها من العرب مهما بذلوا في تعلمها وثابروا في المران بل يظلون في رأيهم أجانب عن اللغة كما هم أجانب عن الجنس العربي , فكأنما تصور هؤلاء الرواة أن هناك أمرا سحريا يمتزج بدماء العرب ويختلط برمالهم وخيامهم وهو سر السليقة العربية يورثه العرب لأطفالهم وترضعه الأمهات لأطفالهم في الألبان ولذا لم يتورع الرواة عن الأخذ من صبيان العرب والرواية عنهم , ولذا لم يروا في شعر أبي تمام والمتنبي ما يؤلمهما لتلك السليقة اللغوية التي قصروها على قوم معينين وقصروها على زمن معين وقصروها على بيئة معينة , فنشأ في مخيلاتهم ما يمكن أن يعبر عنه بدكتاتورية الزمان والمكان .وسواء أصح رأي القدماء في السليقة اللغوية , وأن أمرها مقصور العرب أم لم يصح , فإن عبد القاهر لا يعنيه ذلك , إنما الذي يعنيه هو ما يتبدى له من خطأ في ربط البيان بالإحاطة باللغة , وبالسليقة العربية اللغوية , والعلة في خطأ هذا الربط أنه يفضي بالقائل به كما يقول عبد القاهر إلى رفع الإعجاز جملة , وذلك بأن الإعجاز مرتبط بالبيان ولا يمكن أن يكون القرآن معجزا ببيانه إلا إذا كان مفهوم البيان شيئا غير دائرة الإحاطة باللغة والعلم بها , وذلك أنه لا يثبت إعجاز حتى تثبت مزايا تفوق علوم البشر , وتقصر قوى نظرهم عنها , ومعلومات ليس في منن أفكارهم وخواطرهم أن تفضي بهم إليها وأن تطلعهم عليها , وذلك محال فيما كان علما باللغة لأنه يؤدي إلى أن يحدث في دلائل اللغة مالم يتواضع عليع علم اللغة , وذلك ما لايخفى امتناعه على عاقل ـ أن القرآن الكريم قد نزل بلغة العرب التي كانوا يعرفونها , وهو لم يخرج عن المعاني النحوية التي عرفها العرب , ولكنه كان يتخير المعاني النحوية المطابقة لمقتضيات الأحوال , وبلغ بالتخير حد الإعجاز ـ ومهما يكن من شيء فأن مجال ميزة الكلام العربي على الكلام العربي الآخر هو دائرة تخير معاني النحو ووجوهه الملائمة للمقام , وإنما سبيل هذه المعاني سبيل الأصباغ التي عمل منها الصورة والنقش في ثوبه الذي نسج إلى ضرب من التخير والتدبر في أنفس الأصباغ وفي مواقعها ومقاديرها , وكيفية مزجه لها , وتركيبه إياها إلى ما لم يهتد إليه صاحبه , فجاء نقشه من أجل ذلك , أعجب وصورته أغرب , كذلك حال الشاعر والشاعر في توخيهما معاني النحو ووجوهه التي علمت أنها محصول النظم .

11- ومن شأن هذه المعاني والوجوه ألا يزال يحدث بسببها وعلى حسب الأغراض والمعاني التي تقع فيها دقائق وخفايا , لا إلى حد ونهاية حتى إنك لترى العالم يعرض له السهو فيها , وحتى ترى إنه ليقصد إلى الصواب فيقع في أثناء كلامه ما يوهم الخطأ وكل ذلك لشدة الخفاء وفرط الغموض , وإذا كان بينا في الشيء أنه لا يحتمل إلا الوجه الذي هو عليه فلا مزية , وإنما تكون المزية إذا احتمل في ظاهر الحال غير الوجه الذي جاء عليه وجها آخر , ثم رأيت النفس تنبو عن ذلك الوجه الاخر , ورأيت للذي جاء عليه حسنا وقبولا لايعد مُهما إذا أنت تركته إلى الثاني , ومثال ذلك قوله تعالى : ( وجعلوا لله شركاء الجن ) فليس بخاف أن لتقديم الشركاء حسنا وروعة بلاغية ومأخذا من القلوب , وأنت لا تجد شيئا منه إن أخرت فقلت : وجعلوا الجن شركاء لله . والسبب في أن كان ذلك كذلك ؛ هو أن للتقديم فائدة شريفة ومعنى جليلا لا سبيل إليه مع التأخير ؛ بيانه أنا وإن كنا نرى جملة المعنى ومحصوله أنهم جعلوا الجن شركاء وعبدوهم مع الله تعالى , وكان هذا المعنى يحصل مع التأخير حصوله مع التقديم ؛ فإن تقديم الشركاء يفيد هذا المعنى ويفيد معه معنى آخر وهو أنه ما كان ينبغي أن يكون لله شريك لا من الجن ولا من غير الجن , وإذا تأخر فقيل : جعلوا الجن شركاء لله لم يفد ذلك ؛ ولم يكن فيه شيء أكثر من الإخبار عنهم أنهم عبدوا الجن مع الله تعالى فأما إنكار أن يعبد مع الله إله غيره , وأن يكون له شريك من الجن وغير الجن فلا يكون في اللفظ مع تأخير الشركاء دليل عليه ؛ وذلك أن التقدير يكون مع التقديم أن شركاء مفعول أول لجعلِ ولله في وموضع المفعول الثاني , والجن بالنصب على تقدير فمن جعلوا شركاء لله تعالى ؟ فقيل الجن , وإذا كان التقدير في شركاء أنه مفعول أول ولله في موضع المفعول الثاني وقع الإنكار على وجود شركاء لله تعالى على الإطلاق من غير اختصاص شيء دون شيء , وحصل من ذلك أن اتخاذ شركاء من غير الجن قد دخل في الإنكار دخول اتخاذهم من الجن لأن الصفة إذا ذكرت مجردة غير مجراة على شيء , كان الذي تعلق بها من النفي عاما في كل ما يجوز أن تكون له تلك الصفة فإذا قلت : ما في الدار الكريم , كنت نفيت الكينونة في الدار عن كل من يكون الكرم صفة له . وحكم اغنكار حكم النفي , وإذا أخر وقيل : ( وجعلوا الجن شركاء لله ) كان الجن مفعولا أولا , والشركاء مفعولا ثانيا , وإذا كان كذلك كان الشركاء مخصوصا غير مطلق من حيث كان محالا أن يجري خبرا عن الجن , ثم يكون عاما فيهم وفي غيرهم , وإذا كان كذلك احتمل أن يكون القصد بالإنكار منصبا على أن يكون الجن شركاء دون غيرهم . فانظر الآن إلى شرف ما حصل من المعنى بتقديم شركاء ؛ فإنه ينبيك بكثير من الأمور , ويدلك على عظم شأن النظم , وتعلم به كيف يكون الإيجاز البلاغي وما صورته ,وكيف يزاد في المعنى من غير أن يزاد في اللفظ , إذلك يكن إلا تقديم وتأخير , ومع ذلك فبدونهما لا تستطيع أن تدل على المعنى كاملا إلا بأن تستأنف له كلاما , نحو أن تقول : وجعلوا الجن شركاء لله , وما كان ينبغي أن يكون لله شركاء من الجن ولا من غيرهم , وعلى الرغم من ذلك لا يكون لهذا المعنى وقد استفيد من كلامين , لايكون كاملا له من الشرف والفخامة ومن كرم الموقع في النفس ما تجده له في الآية الكريمة وقد عقل من هذا الكلام الواحد , ومثل ذلك تنكير ( حياة ) في قوله تعالى L ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) فإن لهذا التنكير حسنا لا تجده للتعريف , والسبب في ذلك ؛ أن المعنى على الازدياد من الحياة لا الحياة من أصلها , وذلك لايحرص عليه إلا الحي , فأما العادم الحياة فلا يصح منه الحرص على الحياة ولا على غيرها , وإذا كان الأمر كذلك كان المعنى ( ولتجدنهم أحرص الناس ولو عاشوا ما عاشوا على أن يزدادوا إلى حياتهم في ماضي الوقت وراهنه حياة في الذي يستقبل فكما أنك لاتقول : هاهنا أن يزدادوا إلى حياتهم الحياة بالتعريف , وإنما نقول : حياة , إذ كان التعريف يصلح حيث تراد الحياة على الإطلاق كقولنا : كل أحد يحب الحياة , ويكره الموت . كذلك الحكم في الآية , والذي ينبغي أن يراعى أن المعنى ألذي يوصف بالحرص عليه إذا كان موجودا حال وصفك له بالحرص عليه , لم يتصور أن يجعله حريصا عليه من أصله كيف ؟! ولا تحرص على الحاضر ولا الماضي , وإنما يكون الحرص على المستقبل , وهو مالم يوجد بعد . وشبيه بتنكير الحياة في هذه الآية تنكيرها في قوله عز وجل ( ولكم في القصاص حياة ) فالسبب حسن تنكيرها هنا انه لما كان الإنسان إذا علم أنه إذا قَتل قُُتل ارتدع بذلك عن القتل , فسلم صاحبه , صارت حياة هذا المهموم بقتله في مستأنف الوقت مستفادة من القصاص , وصار كأنه حي في باقي عمره به ؛ أي القصاص , وإذا كان المعنى على حياة في بعض أوقاته وجب التنكير وامتنع التعريف من حيث كان التعريف يقتضي أن تكون الحياة قد كانت بالقصاص من أصلها , وأن يكون القصاص قد كان سببا في كونها في كافة الأوقات , وذلك خلاف المعنى وغير ما هو المقصود , ويبين ذلك أنك تقول لك في هذا غنى فتنكر , إذا أردت أن تجعل ذلك من بعض ما يستغني به , فإذا قلت لك فيه الغنى كان الظاهر أنك جعلت كل غناء به , وأمر ىخر وهو انه لا يكون ارتداع حتى يكون هم وإرادة وليس بواجب ألا يكون إنسان في الدنيا إلا وله عدو يهم بقتله ثم يردعه خوف القصاص , وإذا لم يجب ذلك فمن لم يهم بقتله فليس هو ممن حيي بالقصاص , وإذا دخل الخصوص فقد وجب أن يقال : حياة , ولا يقال : الحياة , كما وجب أن يقال : شفاء , ولا يقال : الشفاء في قوله تعالى : ( يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه , فيه شفاء للناس ) حيث لم يكن شفاء للجميع .
وللحديث بقية :

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأوامر الإلهية في الآيات القرآنية

البلاغة والمجاز

الكلام ، والقول والحديث ... ( فروق لغوية )