الموتُ أكبر واعظ




من روائع الأديب البارع اللوذعي :
الحريري ، في مقاماته البديعة الشهيرة ، وهي موعظة أنشأها على لسان السروجي ، وذلك قوله على شفا قبر : 
لمِثْلِ هذا فلْيَعْمَلِ العامِلونَ، فادّكِروا أيّها الغافِلونَ، وشمِّروا أيّها المقَصّرونَ، وأحْسِنوا النّظَرَ أيه المتبصّرونَ!
ما لكُمْ لا يَحْزُنُكمْ دفْنُ الأتْرابِ، ولا يهولُكُمْ هيْلُ التّرابِ؟ ، ولا تعْبأونَ بنَوازِلِ الأحْداثِ، ولا تستَعِدّونَ لنُزولِ الأجْداثِ؟ ، ولا تستعْبِرونَ لعَينٍ تدْمَعُ ، ولا تعتَبرونَ بنَعْيٍ يُسمَعُ؟ ، ولا ترْتاعونَ لإلْفٍ يُفقَدُ، ولا تلْتاعونَ لمناحَةٍ تُعْقَدُ؟ ، يشيِّعُ أحدُكُمْ نعْشَ الميْتِ، وقلْبُهُ تِلْقاءَ البيتِ، ويشهَدُ مُواراةَ نسيبِه، وفِكْرُهُ في استِخْلاصِ نصيبِه، ويُخَلّي بينَ وَدودِه ودُودِه، ثمّ يخْلو بمِزْمارِهِ وعودِهِ، طالَما أسِيتُمْ على انْثِلامِ الحَبّةِ، وتناسَيتُمُ اخْتِرامَ الأحبّةِ، واستَكَنْتُمْ لاعتِراضِ العُسرةِ، واستَهَنْتُمْ بانقِراضِ الأُسرَةِ، وضحِكْتُمْ عندَ الدّفْنِ، ولا ضحِكَكُمْ ساعةَ الزَّفْنِ، وتبخْتَرْتُمْ خلفَ الجنائِزِ، ولا تبخْتُرَكُمْ يومَ قبْضِ الجوائِزِ، وأعْرَضْتُمْ عنْ تعْديدِ النّوادِبِ، إلى إعْدادِ المآدِبِ، وعنْ تحرُّقِ الثّواكِلِ، إلى التّأنُّقِ في المآكِلِ، لا تُبالونَ بمَنْ هوَ بالٍ، ولا تُخْطِرونَ ذِكرَ الموتِ ببالٍ، حتى كأنّكُمْ قد علِقتُمْ منَ الحِمامِ بذِمامٍ، أو حصَلْتُمْ منَ الزّمانِ، على أمانٍ، أو وثِقْتُمْ بسلامةِ الذّاتِ، أو تحقّقْتُمْ مُسالَمَة هادِمِ اللّذّاتِ، كَلاّ ساء ما تتوهّمونَ، ثمّ كلاّ سوفَ تعلَمونَ!
ثمّ أنشدَ:
أيا مَن يدّعي الفَهْمْ ... إلى كمْ يا أخا الوَهْمْ
تُعبّي الذّنْبَ والذمّ ... وتُخْطي الخَطأ الجَمّ
أمَا بانَ لكَ العيْبْ ... أمَا أنْذرَكَ الشّيبْ
وما في نُصحِهِ ريْبْ ... ولا سمْعُكَ قدْ صمّ
أمَا نادَى بكَ الموتْ ... أمَا أسْمَعَك الصّوْتْ
أما تخشَى من الفَوْتْ ... فتَحْتاطَ وتهتمْ
فكمْ تسدَرُ في السهْوْ ... وتختالُ من الزهْوْ
وتنْصَبُّ الى اللّهوْ ... كأنّ الموتَ ما عَمّ
وحَتّام تَجافيكْ ... وإبْطاءُ تلافيكْ
طِباعاً جمْعتْ فيكْ ... عُيوباً شمْلُها انْضَمّ
إذا أسخَطْتَ موْلاكْ ... فَما تقْلَقُ منْ ذاكْ
وإنْ أخفَقَ مسعاكْ ... تلظّيتَ منَ الهمّ
وإنْ لاحَ لكَ النّقشْ ... منَ الأصفَرِ تهتَشّ
وإن مرّ بك النّعشْ ... تغامَمْتَ ولا غمّ
تُعاصي النّاصِحَ البَرّ ... وتعْتاصُ وتَزْوَرّ
وتنْقادُ لمَنْ غَرّ ... ومنْ مانَ ومنْ نَمّ
وتسعى في هَوى النّفسْ ... وتحْتالُ على الفَلْسْ
وتنسَى ظُلمةَ الرّمسْ ... ولا تَذكُرُ ما ثَمّ
ولوْ لاحظَكَ الحظّ ... لما طاحَ بكَ اللّحْظْ
ولا كُنتَ إذا الوَعظْ ... جَلا الأحزانَ تغْتَمّ
ستُذْري الدّمَ لا الدّمْعْ ... إذا عايَنْتَ لا جمْعْ
يَقي في عَرصَةِ الجمعْ ... ولا خالَ ولا عمّ
كأني بكَ تنحطّ ... إلى اللحْدِ وتنْغطّ
وقد أسلمَك الرّهطْ ... إلى أضيَقَ منْ سمّ
هُناك الجسمُ ممدودْ ... ليستأكِلَهُ الدّودْ
إلى أن ينخَرَ العودْ ... ويُمسي العظمُ قد رمّ
ومنْ بعْدُ فلا بُدّ ... منَ العرْضِ إذا اعتُدّ
صِراطٌ جَسْرُهُ مُدّ ... على النارِ لمَنْ أمّ
فكمْ من مُرشدٍ ضلّ ... ومنْ ذي عِزةٍ ذَلّ
وكم من عالِمٍ زلّ ... وقال الخطْبُ قد طمّ
فبادِرْ أيّها الغُمْرْ ... لِما يحْلو بهِ المُرّ
فقد كادَ يهي العُمرْ ... وما أقلعْتَ عن ذمّ
ولا ترْكَنْ الى الدهرْ ... وإنْ لانَ وإن سرّ
فتُلْفى كمنْ اغتَرّ ... بأفعى تنفُثُ السمّ
وخفّضْ منْ تراقيكْ ... فإنّ الموتَ لاقِيكْ
وسارٍ في تراقيكْ ... وما ينكُلُ إنْ همّ
وجانِبْ صعَرَ الخدّ ... إذا ساعدَكَ الجدّ
وزُمّ اللفْظَ إنْ ندّ ... فَما أسعَدَ مَنْ زمّ
ونفِّسْ عن أخي البثّ ... وصدّقْهُ إذا نثّ
ورُمّ العمَلَ الرثّ ... فقد أفلحَ مَنْ رمّ
ورِشْ مَن ريشُهُ انحصّ ... بما عمّ وما خصّ
ولا تأسَ على النّقصْ ... ولا تحرِصْ على اللَّمّ
وعادِ الخُلُقَ الرّذْلْ ... وعوّدْ كفّكَ البذْلْ
ولا تستمِعِ العذلْ ... ونزّهْها عنِ الضمّ
وزوّدْ نفسَكَ الخيرْ ... ودعْ ما يُعقِبُ الضّيرْ
وهيّئ مركبَ السّيرْ ... وخَفْ منْ لُجّةِ اليمّ
بِذا أُوصيتُ يا صاحْ ... وقد بُحتُ كمَن باحْ
فطوبى لفتًى راحْ ... بآدابيَ يأتَمّ

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأوامر الإلهية في الآيات القرآنية

البلاغة والمجاز

الكلام ، والقول والحديث ... ( فروق لغوية )