لقاء الأهل وكوابيس الحرب

نقل موضوعات مدونتي متنفس ذاتي

لقاء الأهل وكوابيس الحرب


كان لقائي بأسرتي قمة أفراح متواصلة عندهم , ومر أكثر من يومين وأنا لاأحاول أن أجيب أحد عن استفساراته المتعلقة بما حدث لي , وتجنب الأهل السؤال في النواحي العسكرية 
وأحسست أنني أحيا من جديد , ولدت في سن مابعد التجنيد , فحياتي الجديدة اريد ألا يكون لي فيها ماض ولا ذكريات , تمنيت لو انقطعت كل الروابط التي تربطني بما مر من عمري قبل دخول الخدمة العسكرية , نسيت كثيرا من أصدقائي وحتى أقربائي , واختلطت صورهم في مخيلتي لم تعد تشرق بنفس الوضوح وكادت أسماء كثيرة تتلاشى تماما من الذاكرة
 
أثناء نومي كانت تنتابني رعشة وقشعريرة غريبة يهتز لها كياني كله , وأهب جالسا من نوم عميق شاردا مستغرقا في كوابيس وأوهام سوداء كأن أحداث الأمس الكئيب قد عاودتني مرة أخرى , , ولا أفيق منها الا عندما تحتويني أحضان أمي الحبيبة وتضع قبلتها الحنونة على جبهتي وخدي برفق وأمومة صادقة وتنساب دمعة من عينيها الدافئتين فأطمئب أنني بأمان بين ذراعيها وحنانها الجم , فتسقط من عيني أنا أيضا دمعة الم , واستلقي على الفراش بعد الفزع الذي هبط على نفسي وأعاود النوم العميق لساعات 
وتكررت هذه الحالة من الانفعالات اللاارادية حتى قلق والدي ووالدتي علي , وسألتني أمي : ماذا أصابك يا بني ؟!! كنت أعقل واحد في أخوتك وأهدأهم ماذا جرى لك ؟
ــــ لاتهتمي ياأمي سأكون بخير ان شاء الله انها فترة بسيطة من استرجاع الذكريات , لاتلبث أن تنقشع وتزول لاتقلقوا علي انني بخير والحمد لله 
انقضى أسبوع الاجازة بسرعة وجاء وقت السفر الى المعسكر ولم يصدق أحد عودتي .استعدت شجاعتي وعزمي ولم تؤثر في دموع ترقرقت في عيون المودعين من أهلي وأحبابي , وارتديت ملابسي العسكرية التي أعدتها أمي
وقامت بكيها , وغادرت القرية الى القاهرة حيث وجدت مجموعة كبيرة من الزملاء قد عادوا من سيناء , وبدأنا نعد العدة لتجهيز معسكر جديد على طريق السويس فحفرنا أماكن للخنادق وجهزنا أماكن الخيام واستغرق العمل ثلاثة أيام , وماكدنا ننتهى حتى جاءت الأوامر بتغيير المكان 
واستقبلنا أسبوعا شاقا من التدريب على الصاعقة وكانت طوابير قاسية وجري سريع واحتياطات أمنية مشددة وتدريب متواصل وخدمة ليلية متعاقبة حتى أحسسنا بخشونة الجندية من جديد وتعودنا على هذه الحياة العسكرية
كانت وحدتنا تبعد عن مطار ألماظة أربعة كليومترات في اتجاه طريق السويس , وانتظمت مواعيد التدريب والاجازات فمنحت اجازة أخرى قبل العيد , قيل لنا أننا سنترك هذا المكان الى الخطوط الأمامية للجبهة 
وبفضل أعمالي في خدمة المعسكر في مكتب الأفراد والأرشيف مع أركان حرب الوحدة استطعت النزول مرة
ثالثة في العيد وقضيت يومين سافرت بعدهما لقضاء فترة طويلة في وحدتي وكان يوم ضرب النار ومشروع التدريب عليه وكم كنت أود أن أشارك زملائي فيه , لكن قائد الأفراد خلصني منه بادعاء أن الأعمال المكتبية محتاجة الى تواجدي المستمر بالمكتب 
وتوجهنا الى السويس ولم نؤمر بحمل أسرة النوم أو صناديق الأدوات الخاصة بنا . وتخلفت مؤخرة بسيطة لحراسة المعسكر بألماظة . ومرت من أمام خيمتنا بجوار باب المعسكر العربات المجنزرة ونصف المجنزرة في أشكال متعددة ووراءها المدافع الثقيلة ذات عيار 150 ملليمتر والتي يتراوح مدى بعد أهدافها 27 كيلومترا وشعور بالأمل في استعادة النصر من جديد 
وسرت أنباء بكشف مؤامرة كبيرة لقلب نظام الحكم كانت هي السبب في فشلنا في حرب يونيو وأنباء أخرى بمحاكمة كبار الضباط المسئولين , وبعد أيام قليلة سمعت نبأ انتحار المشير عبد الحكيم عامر , وأعيد تشكيل الجيش , ووفد على معسكرنا بعض الخبراء الأجانب الروس وكانوا مثالا للخشونة العسكرية والتدريب الفني اللائق . وبين هذه الأخبار والضوضاء كنا نسمع عن وقوع اشتباكات على خطوط الجبهة . الفريق مدكور أبو العز يرجع قوات العدو خمسة عشر ميلا الى رأس العش بحملة من الطائرات , ثم نبأ اغراق المدمرة الاسرائيلية ( ايلات ) وحملنا قطار البضاعة ذو العربات الحمراء الحديدية المقفلة في زمهرير الشتاء في فبراير في ليلة قاسية عنيدة وسار يتخبط بنا ليلا وسط ظلام الصحراء الدامس ومن فوقه ترقد المدافع صامتة هي وجراراتها الكبيرة حتى وصلنا مطلع الفجر بين سكون وهدوء المكان وربضت المدافع في أماكنها المجهزة لها من قبل ودخلنا قيادة اللواء في مدرسة في ميدان الأربعين بالسويس وأنزلنا أدواتنا وفجأة دوت صفارة الانذار وأمرنا بالاستعداد التام ولبسنا الخوزات النحاسية أو أغطية الرأس .واستلمنا الأسلحة والذخيرة , ودارت معركة انتقامية رهيبة بعد اغراق المدمرة ( ايلات ) وكانت تقصد محطات البترول بالسويس , وكافح الجميع في اطفاء الحرائق المشتعلة ثلاثة أيام وأصيبت مصانع السماد ومعامل التكرير وبعض الخزانات اصابات مباشرة ولكنها لم تتوقف عن العمل ولقد زرت بنفسي أنا وزميلي وهبة حكيم وهبة محطة كهرباء السويس وهي بجوار معمل التكرير وكانت هدفا من أهداف العدو ودخلت المحطة وشاهدت تدمير أحد الأوناش الهائلة بقذيفة صاروخية اسرائيلية أتت على الماكينة وحطمتها تماما , ومن حسن الحظ أنها لم تصب الأفران المشتعلة التي أخبرني زميلي المهندس وهبة أنه لو تم نسفها لأحرقت حي الأربعين بمن فيه ولأصبحت كارثة حقيقية للمنطقة بأكملها 
ومرت الأيام بالسويس هادئة بعد ذلك , وتجولت بالمدينة مرات أنا وبعض الزملاء ورأيت أن أحدى الكنائس الكبيرة أمام المدرسة قد أصيبت وذلك في موجة الاعتداء على المدنيين بحي الأربعين وقد شاهدت أحد القتلى بقذيفة مدفعية , وتصدعت بعض قصول المدرسة التي كنا نعسكر فيها , وثقب سقف الفصل وانتقلنا الى مدرسة أخرى نائية خوفا من أن يكون المكان قد تم اكتشافه للعدو
ونزلت اجازة ميدانية من السويس وقصصت على أهلي أنني مستريح ولم أرغب في احداث أية توترات لهم بالنسبة لي 
وعدت الى وحدتي بالسويس وقمت بجولة مع المساعد عبد الحليم في كتائب اللواء المتناثرة في أطراف السويس خلف معامل البترول وفي منطقة الجناين وهناك على أبواب السويس الخلفية عند سفح جبل عتاقة الشامخ . وجمعت في هذه الجولة بيانات مطلوبة عن الأعمال المكلف بها بخصوص يومية الشهر الدورية , وعند عودتي تناولت الشاي مع والد سائق العربة ( الزيل ) الذي كان يعمل محولا بمحطة الجناين بالسويس . وعدت الى مقر عملي فوجدت بنأ سارا , وهو موعد خروجنا من الجبش في أول مارس 1968 ولم نصدق الخبر أول ما سمعنا به , الا بعد أن نزلت مجموعة من المعينين لمأمورية الى القاهرة لنسخ نماذج الأفراد المقرر تسريحهم على الاحتياط والخروج نهائيا من الخدمة في 1\3\68 وكنت من بينهم وعانقت زميلي وهبة من الفرحة وعدلي وحامد البلاسي ومجموعة المسرحين . وقمنا بجولة أخرى تفقدنا زملاءنا بفرق الاستطلاع والكشف الأمامية ومن هناك نظرت من فندق العروبة ( العربي ) وشاهدت تحركات العدو أمامي على الضفة الأخرى عند بور توفيق ولمحت عددا من جنود اسرائيل يجلسون خلف تبة رملية وهم يتطلعون بالمنظار ناحيتنا وتندفع بين الحين والآخر عربة من بيعد تنقل الجنود أو تنقل لهم طعاما وذخيرة في صناديق كبيرة وكانمت تحمل أمامي على ظهور الجنود 
وودعنا رفاقنا داعين لهم بالنصر مؤكدين لهم وقوفنا معهم ساعة المعركة
وتأجل خروجنا مدة بسيطة حتى تغرب شمس آخر يوم من فبراير واضطررنا للمبيت وكنا قد أقمنا حفلا كبيرا في هذه الليلة بمناسبة خروج دفعة رديف مؤهلات عليا . أقامه السيد قائد أركان حرب أفراد اللواء وحضره النقيب سمير والملازم أول محمد أبو الفتوح وعبد النعيم وعدد كبير من أفراد الوحدة .وقدم لنا أنا وزميلي وهبة قائد أفراد الوحدة هدية تذكارية بسيطة كانت دليل اخلاص هؤلاء الضباط وتقديرهم لنا وهي عبارة عن ( قلمين فاخرين للحبر ) لكل منا واحد منهما وتناولنا الجاتوهات والموز والبرتقال وتبادنا كلمات الوداع . وفي الصباح تعانقنا وصافحنا الضباط وأفراد الوحدة وغادرنا السويس قبيل الظهر بعد أن تسلمنا شهادات المعاملة العسكرية وتوجهنا بها الى القاهرة التي وصلناها في الخامسة بعد العصر

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأوامر الإلهية في الآيات القرآنية

البلاغة والمجاز

الكلام ، والقول والحديث ... ( فروق لغوية )