الفكاك من الأسر والعودة للوطن
كنت قد نقلت في غذاء الفكر وبقاء الذكر
فصلا من مدونتي متنفس ذاتي
تحت عنوان ( ذكرياتي مع نكسة يونيو 1965 )
وهذا هو الفصل الذي يليه
فصلا من مدونتي متنفس ذاتي
تحت عنوان ( ذكرياتي مع نكسة يونيو 1965 )
وهذا هو الفصل الذي يليه
الفكاك من العدو والعودة للوطن
أخذ الجنود الاسرائيليون يكلفوننا بحفر الخنادق الذي دمرها الطيران من جديد , ونحن مراقبون تحت تهديد السلاح وكان المعسكر ممتلئا بالجنود المصريين وبعض الضباط الأسرى وآخر النهار نساق الى حيز ضيق محاط يالأسلاك الشائكة وحولة الدوريات الاسرايئيلية من الدبابات والعربات المصفحة , وكانوا قد سلبوا كل مامعنا من أسلحة وممتلكات شخصية كالنقود أو الساعات أو الأوراق الخاصة بنا , ويلقى الى كل مجموعة عدد من علب البسكويت من مخازن الجيش المصري وبعض الأرغفة من الخبز فنتخاطفها من الجوع والارهاق في صمت وحذر من الفوضى حتى لايكون مصيرنا الضرب بالرصاص من الحراس
وبعد أن انتهينا من جمع الذخيرة الفارغة حول المواقع التي ضربها الطيران وحفرنا الخنادق , جلس أحد الضباط الاسرائيلين وسط المعسكر وأمامه أريكة خشبية عليها بعض الأوراق , ويتقدم الجنود وفي ظهر كل منهم رشاش بيد الجندي اليهودي المكلف بحراسة الأسير المصري , بالترتيب بعد أن ينادي الضابط على المكلف بالحراسة فيدفع الأسير أمامه تحت تهديد السلاح الى الضابط الذي يرمقه بنظرات تحد وغضب وشماتة
وجاءت فتاة تحمل رتبة عسكرية وترتدي شورتا وسترة قصيرة وفي يدها طبنجة لامعة . ومالت على الضابط وحدثته قليلا بالعبرية , ثم ضحكا . وتقدمت هي نحوي وكان الدور قد جاء علي
ـــ أنت اسمك ايه ؟!! وسمعتها تتكلم المصرية كأنها عاشت في مصر
قلت : محمد فهمي حامد
فقالت بابتسامة زرقاء خبيثة : ورتبتك ايه يا محمد ــ ضابط ــ أم ــصف ضابط ؟
!!
قلت : أنا عسكري مجند يا ا فندم
فاقتربت أكثر مني وهي توجه غدارتها نحو رأسي قائلة
وماذا كنت تعمل في مصر ؟
قلت : مدرس والأوراق التي أخذتموها مني فيها ما يثبت ذلك
قالت : تحب تروح تل أبيب تعلم أولادنا اللغة العربية . سوف نعطيك ثلاث أضعاف راتبك في مصر
وصمت كأن على رأسي الطير , فتابعت قولها وهي تصرخ وتطلق احدى الرصاصات من سلاحها : تحب تروح لأمك يا عيل ؟
وضحك الضابط والجنود الاسرايئليون من قولها
ثم صرخت بعنف : لماذا لاترد هل خرست ؟
قلت على الفور : أبدا يا افندم أنا أحب أن أعود الى بلدي
فابتسمت وخفت من حدة كلامها وأخذتني على انفراد مع الحارس وأخذت تستفسر مني أن أدلها على الضباط الذين معي في المجموعة التي أسرت
ورددت فورا : الضابط الذي كان معنا استشهد في الطريق ولا أعرف أحدا من هؤلاء
ولمحت أني صادق في قولي , رغم أني كذبت حيث أعرف أن أحد الضباط كان قد غير ملابسه وارتدى ملابس جندى في الطريق وشاهدته معنا في المجموعة
ثم أمرت الحارس أن يقودني مع الذين تم استجوابهم في آخر المعسكر
وتابعوا بعد ذلك تكليفنا بمهام عسكرية أخرى كنقل صناديق وحفر المزيد من الخنادق , وجمع فوارغ الطلقات وتعبئتها في عربات الزيل الروسي التي استولوا عليها من الجيش المصري .وكذلك العربات المضروبة لتحميلها الى اسرائيل .وكدنا نتساقط من التعب والارهاق . وفي نهاية النهار دعوت الله أن ينجينا من هذه المحنة ونحن نقف في معسكر النوم وقطع علينا تعبنا وتفكيرنا وكنت أحمل ( عجلة كاوتش ) كبيرة لسيارة من باب العقاب من الفتاة الملعونة التي لم تنل مني ما أرادت . صوت حارسي اليهودي وأزيز طائرة هليوكابتر قادمة نحو المعسكر
ضع العجلة ضع بسرعة . وفتح الباب السلكى الذي يحجزنا عن الصحراء ونودي علينا بالتجمع السريع والجلوس القرفصاء على ركبنا وأيدبنا فوق رؤسنا . وتقدم كل حارس ليضع سلاحة على كتفالواحد منا وضغطوا على الزناد في لحظة واحدة وهم يقولون لنا انطلقوا بأقصى سرعة في قلب الصحراء حتى مرمى الرصاصات والا كان مصيركم القتل
ومن بعيد أكثر من كليومتر تقريبا لمحنا الطائرة تهبط وعليها علامة الصليب الأحمر
والتففنا حول التل الذي صعدنا منه , وكنا تقريبا عشرة أفراد نجري متقاربين وننادي على بعضنا البعض حتى نتقوى ونصبر ,. وعلى مسافة بعيدة في الصحراء لمحنا الأعرابيين الذين دلونا على الماء من فوق التبة , وما كان الا مكيدة منهم . وأمسكناه بهما وأخذنا منهم سلاح الضابط الشهيد ابراهيم عطا , وتركه لي زملائي فحملته ولكن بدون ذخيرة
وتجمعنا مع منتصف الليل لنستريح . وكان أحد أفراد المجموعة قد سأل الأعرابيان أين نحن ؟ فعرفنا أننا بمنطقة تسمى ( رأس العش .) فقال لنا : لقد اقتربنا من شاطيء قناة السويس أرجوكم أن تسمعوا كلامي فأنا أخوكم الضابط ( عبد الرءوف ) وكان ذلك ليل اليوم الثالث عشر من يونيو . وكان الجو قاسيا والظلمة حالكة , وسمعنا كلامه فقد وعدنا أن يساعدنا في الوصول الى مصر سالمين
وقادنا من جديد كما فعل ( ابراهيم عطا ) من قبل . وعلى بعد أشار الينا أن الطريق المرصوف الموصل للقناة يبعد عنا بحوالي كليومترين ورأينا فعلا الدوريات اللاسلكية تقطعه رائحة غادية , وقال عبد الرءوف علينا أن نزحف على بطوننا ونحن نقترب من الطريق . وفجأة شاهدنا مصابيح كهربائية تضيء المنطقة القريبة من الطريق كأننا وسط النهار , ثم يتلوها رخات من الطلقات النارية في اتجاهنا , ونالني أحد هذه الرصاصات في كاحلي وأنا أزحف على بطني وقام الضابط بقطع كم قميصي وربط الجرح حتى توقف النزيف , وبدأنا نصعد مكانا عاليا كالتبة السابقة خلف الضابط , وخيل الينا أننا سوف نهلك ولن نصل الى نتيجة والجوع يهدنا والعطش . ومن فوقنا الطلقات الحارقة والطلقات الكاشفة المضية
ولما وصلت الى قمة التل الرملي تركت نفسي أتدحرج للسفح وسمعت ثلاثة من زملائي قد فعلوا نفس الشيء فأمسكنا بأيدي بعضنا البعض , وخلعت حذائي الذي بدأ يغوص في أرض رطبة كالمستنقع , وخلع الزملاء ما عليهم من ثياب , متوقعين أن نواجه مياها أعمق , وكنت مازلت أحمل سلاحي , وتابعنا السير وكان صوت خطواتنا وهي تخوض الماء صوتا كئيبا مخيفا وغاصت أرجلنا شيئا فشيئا في الماء وارتفع الماء الى منتصف أجسامنا ومازال الظلام يغطي المكان . ووصل الماء الى أعناقنا وقررنا أن نقف مكاننا ممسكين بأيدي بعضنا الى أن يظهر الضوء
وقال أحد رفاقي : انني سأعوم أنا أعرف كيف أعرم . فلم ندعه يفعل ويتركنا , وظلت برودة المياه والظلمة لاندري كم من الوقت مر علينا ونحن هكذا
حتى بدت تباشير الصباح , ووجدناه مستنقع كبير عند منطقة ( البلاح ) ومنتهاه على بعد أقدام بسيطة فتابعنا السير الذي توقف كثيرا من الخوف والجهل بما وراء المستنقع , ولو كنا مررنا منه لوصلنا بالليل الى الأمان فضحكنا والدموع تترقرق في أعيننا من الفرحة والألم , فقد لاحت لنا القناة والسفن الراسية فيها وجلسنا على حافتها مباشرة
وسألت زميل منا : هل تعرف المكان قال : نعم أنا من الاسماعيلية والساعة الآن تقريبا السابعة صباحا وسوف تبدأ السيارات في المرور , وفعلا أخذنا نلوح للعربات المارة من الناحية الغربية للقناة , لكن المسافة كانت كبيرة , فكانت تمرق بمن فيها مسرعة ورأينا جنودا فوقها بعضهم لا يلبس سترات فوق جسمه . والبعض كان يحتضن الآخر بفرح
ولم يكن هناك بد من السباحة , فخلعت سترتي وبنطلوني وبقيت بملابسي الداخلية وتجمع عدد آخر من الجنود العائدين من الصحراء عند نفس النقطة التي وصلنا اليها وكان منهم الضابط عبد الرءوف فجمع ممن كان معه سلاح سلاحه وبدأ ينظم عملية عبور القناة , ونزلت الى القناة مع خمسة من الرفاق وفي منتصف المياه أحسست أن الامواج والعمق سيغوصان بي في قعر القناة , حتى رآنا بعض رجال الدفاع الشعبي على الجانب الآخر فألقوا بأنفسهم في القناة لانقاذنا
وكان أحدنا قد غاص غارقا في القناة ولم يظهر منه شيء ووجدت قربة عائمة تشبه الكاوتش الذي كنت احمله في معسكر العدو الخبيث فاعتمدت عليها في سباحتي المتوسطة والمتشبثة بالنجاة وقابلنا رجال الانقاذ من المقاومة الشعبية وساعدونا على الوصول للشاطيء الآمن من مصر بقارب مطاطي انزلوه لتجميع الجنود من القناة
وجاء الضابط وأخذنا ملابسنا وسلاحنا لمن كان له سلاح منا وكان رجال القنطرة غرب هم المنقذون الأبطال
وركبنا سيارة الى مدرسة كبير تجمع بها جنود يلهثون وعليهم صفرة ومرارة الألم وقسوة المعاناة التي لاقوها في العودة , وقدمت لنا أطعمة خفيفة التهمناها وشربنا حتى ارتوينا
وسجلوا أسماء العائدين وما معهم من سلاح وسجلت سلاحي وجلسنا في أحد الفصول الدراسية . المفتوحة وكان الطعام كثيرا حتى اننا لم نكمله كله
خرجت أبحث عن وسيلة لابلاغ أهلي بنجاتي ووصولي وتركونا للعودة الى بلادنا . فركبت سيارة تحمل العائدين الى الاسماعيلية . وهناك سلمونا ملابس جديدة وحذاءا جديدا ووصلنا الى القاهرة , وقمت بتسجيل اسمي للمرة الثالثة بادارة المدفعية التي أتبعها ثم ذهبنا الى مقر المعسكر الجديد بالماظة ووجدتهناك قائد الكتيبة الثالثة بلوائنا الحربي التي كانت بالقرب من( ممر متلا)
وهو الرائد : الاتربي يونس السقا وهو من مدينة كفر الدوار وعرفت أن وحدتي قد رجع منها ثلاثة عشر جنديا وضابطا واحدا بدون سلاح غير بندقيتي
وكنت قد اقترضت مبلغا من النقود من قائد الكتيبة يكفي لعودتي للبلد , وكنت قد أرسلت لهم برقية من القنطرة أخبرتهم فيها بعودتي سالما
لكن رجلاي لم تحملاني فمكثت بالمستشفى ثلاثة أيام فاقد الوعي الى أن التأمت جروح قدمي المتقيحة والملتهبة واستطعت السير فأخذت اجازة لمدة أسبوع واحد يبتديء من 19\ 6\ 67