سنوات الإعارة

نقل موضوعات من متنفس ذاتي


سنوات الإعارة

بدأت في سبتمبر 1972 بسفري لأول مرة بالطائرة ) البوينج 747 شركة مصر للطيران الى مطار طرابلس الدولى بليبيا مع دفعة بعثة المدرسين المصريين المعارين الى ليبيا , ومعنا رئيس البعثة الأستاذ جمال خشبة وأهدتنا المضيفة مصحفا من شركة مصر للطيران , ولما هبطت بنا الطائرة علمنا أن التوزيع لهذه المجموعة الى جنوب ليبيا محافظة سبها ومراكزها , وكانت المسافة كبيرة جدا لدرجة أن في مركز أوباري الذي توزعت عليه يوجد مطار فرعي يصل عليه الركاب من طرابلس وبنغازي , ولكن شاءت الظروف أن يقدر لنا السفر برا بالأتوبيسات المكيفة لتقطع بنا آلاف الكيلومترات في قلب الصحراء الى سبها ثم منها الى أوباري , وكانت تلك فكرة المحترم جمال خشبة توفيرا لليبيا تكاليف نقلنا بالطائرة ليكسب تجديد فترة رئاسته للبعثة عاما آخر رغم أن بعثة اعارة زملائنا السودانيين الى الجنوب كانت بالطائرات , وتحملنا مشاق الرحلة القاسية التي ظلت أكثر من ست عشرة ساعة مررنا فيها بألوان من العذاب ووسط جبال وطرق ملتوية وعرة حتى انتهى بنا المطاف في سبها وتسلمنا خطابات التوزيع على المدارس من مديرية سبها التعليمية وقمنا بفتح حسابات في بنك سبها الوطنى لتحويل النقود عن طريقه الى مصر والتقيت هناك بزميل من كوم حمادة مدرس رياضيات يسمى الأستاذ أمين جاد ونمت عنده ليلة حتى انتهت الاجراءات وتوجهت بعدها مع بعض المدرسين الى أوباري
.


وصلت الى مدرسة أوباري الاعدادية المشتركة الساعة الثانية عشرة ظهرا , واستقبلنا ناظر المدرسة الليبي والمدرسون ومنهم المصري والفلسطيني والباكستاني والسوداني والليبي , وكانت فترة امتحانات الدور الأول للنقل الاعدادي , ووزعني الناظر على كنترول المدرسة لأمارس عملي في مراجعة أوراق الاجابة في مادة اللغة العربية بعد تصحيحها , ووضع أمامي مجموعة كبيرة من الأوراق تزيد عن ثلاثين ورقة راسبة وقال هذه الأوراق عاوزينها تنجح ياشيخ . هكذا كانوا ينادون علينا أو باسمائنا بدون ألقاب بقولهم يامحمد مثلا
.


ولم يكن بكل هذه الأوراق أكثر من ثلاثة أوراق أو أربعة هي التي تستحق النجاح , وباقي الأوراق شبه فارغة من الاجابات ولكن الأوامر الصريحة والمطلوبة أن نضع لها درجات على الهواء في مراية كراسة الاجابة حتى تتحسن نسبة نتيجة المدرسة وبالطبع هذه الأسماء من اختيار السيد ناظر المدرسة بنفسه ولأشخاص بينه وبينهم علاقات خاصة من قرابة أو مصالح متبادلة . وكان علي أن أنفذ بدون مناقشة
.


وأضيف الى الأشراف على القسم الداخلي للطلبة وهو عبارة عن مبان سكنية من دورين للمغتربين عن أوباري من التلاميذ الليبيين الذين ينتظمون في الدراسة طوال الأسبوع ثم يسافر البعض منهم الى بلادهم في نهاية الأسبوع , وعلى المشرف أن يبيت في حجرة الأشراف بسكن التلاميذ للرد على أسئلتهم وحل مشاكلهم طوال الليل , وكم لهم من أسئلة تافهة ومستفزة أحيانا ولابد من الاجابة عليها , وكثيرا ما يتشاجرون مشاجرات مصطنعة ليأتي لهم المشرف ويرى منهم سخافات الصبية وعليه أن يتحملها , ومما يحمده المدرس أن الأشراف لايستمر طوال الأسبوع وانما يتناوبه المدرسون في كل مادة لكل مدرس يوم أو يومين على الأكثر , وكان رئيس القسم الداخلي زميل من الأسكندرية متفرغ لأدارة التغذية ومتابعة الاشراف وتقديم تقارير لناظر المدرسة يوميا عن التلاميذ والمشرفين وأحداث الاشراف
.


وبدأت الدراسة للدور الثاني ووزعت الجداول على المدرسين وكان نصيبي فصلان أحدهما في الصف الثاني الاعدادي والآخر في الصف الثالث وعدد الحصص عشرون حصة أي بمعدل ثلاث حصص يوميا تقريبا عدا يوم الاشراف ففيه حصتان فقط , وكانت الفصول مشتركة من البنين والبنات والليبيون لايتقيدون بالسن الذي نتقيد به في مصر , فقد تجد طالبا أو طالبة في الصف الثاني الاعدادي تجاوز الرابعة عشرة سنة وكذلك في الصف الثالث , والتعامل معهم يحتاج الى صبر ومهارة فهم أقل ذكاءا من أمثالهم في مصر , لايهتمون بالدرس والتحصيل , والتلميذات منهن يتطلعن الى الانتهاء من الاعدادية ليتزوجن , وفي الفصول تجد أولاد المصريين المتزوجين والوافدين من الدول الأخرى أكثر حماسا وتفوقا عن أقرانهم الليبيين وكان بفصلي في الصف الثاني تلميذتان مصريتان أحداهما ابنة زميل مدرس لغة عربية مصري اسمه علي الدين في عامه الثالث من الاعارة وهو قاهري وله ثلاث بنات فقط وزوجته تعمل معه في ليبيا بأوباري ممرضة بالمستشفى المركزي ,والثانية ابنة أحد العاملين الأطباء المتعاقدين , وبذلت مجهودا كبيرا للتأقلم مع التلاميذ الأشقياء وتوصيل المعلومات اليهم
.


وكنت قد قضيت عطلة نصف العام بطرابلس والتقيت هناك بقريب لي يعمل طبيب أسنان لأسرة القذافي , وقد استضافني لمدة يومين قام فيهما بشراء ما يهمني من الهدايا والمستلزمات الخاصة بي لاحتياجي اليها خلال سنوات الاعارة , اشتريت بوتاجاز ومسجل ياباني وجهاز تكييف صغير ومكواة ومروحة وهدايا كثيرة متنوعة للأسرة والأهل والأصدقاء ملأت عدد من الحقائب واستنذفت كل ماوفرته من المرتب هذا العام . ثم تم شحن هذه الأشياء معي الى أوباري مباشرة , ونسيت أن أشتري ساعة قيمة لنفسي , فقمت بتكليف زميل لي بالمدرسة نزل بعد عودتي الى طرابلس لشرائها , وفعلا اشترى ساعة قيمة وبعض الأشياء الأخرى التي نسيتها من الهدايا
.


وهكذا اقترب العام الأول من الاعارة على الانتهاء وبدأ الاستعداد للسفر , وكنت أرسل ما يتوفر معي من النقود الى حسابي بمصر وهو لايتعدى نصف المرتب حسب التعليمات حيث كان من المفروض أن يصرف المعار نصف مرتبه بليبيا ولا يجوز له تحويل أكثر من النصف مما يتقاضاه
.


وكان السفر من أوباري مباشرة بالطائرة الى بنغازي ثم الى القاهرة . وكان المسموح به للراكب ثلاثين كيلو من الوزن , مع التغاضي عن عشرة كيلو مع الراكب في حقيبة اليد , والباقي يتم دفع فرق الوزن بالمطار بعد التفتيش الدقيق , ويوم السفر دفعت قيمة الزيادة في الوزن وكان حوالي ثلاثين كيلو آخر غير المسموح لي به , وكان المبلغ الذي حولته طوال العام قد صرفه والدي واشترى لي به بعض القراريط الزراعية بالقرية
.


استقبلني الأهل بالفرحة منتظرين الهدايا , ولم أنس أحدا منهم حتى أقاربي من الدرجة الثالثة أو الرابعة في العام الأول
.


وقضيت الاجازة في تنقل بين كفر الدوار والاسكندرية والقاهرة ودمنهور في الزيارات أو في اجراءات تجديد الاعارة للسنة الثانية ابتداء من المدرسة وتوقيع ناطر المدرسة الأستاذ الجزار , وأخذ التصاريح من المديرية للتجديد وكان لابد من تقديم الهدايا والتي تطلب أحيانا بالتحديد من بعض الموظفين , وأذكر طلب مدير التنسيق بالمديرية الأستاذ شكري أبو علو قطعة قماش بدلة صوف انجليزي ماركة هيلد هذا غير الرشاوى النقدية التي توضع بالأدراج اثناء استلام اذن السفر وبقية الأوراق , وكانت هناك في مصر حالة تعبئة عامة بين الاحتياط ممن أدوا الخدمة العسكرية قبيل موعد سفري لبدء العام الدراسي الجديد حيث قاربت أجازتي على الانتهاء مع نهاية سبتمبر , ولم يكن أحد من زملائي قد تم الموافقة على تجديد سفره قبل أن يسلم نفسه لوحدته العسكرية , ولكني كنت قد سرحت نهائيا بدون فترة احتياط نظرا لظروف تجنيدي المختلفة وأسري وخروجي من الخدمة بعد العودة في أول مارس 1968 ولذلك كان سفري قبل بداية شهر أكتوبر بأيام قليلة
.


وما أن استقر بي الحال بمدرستي بأوباري , حتى وردتنا الأنباء السارة عن حرب السادس من أكتوبر العاشر من رمضان عن طريق الاذاعة والتلفاز , وكان أخي حمادة ممن عبروا قناة السويس واشتركوا في حرب الانتصار على العدو الاسرائيلي الصهيوني , وكنت قلقا عليه حتى طمأنني خطاب جاءني من أبي ففرحت بنجاته وعودته سالما
.


وكان المصريون في ليبيا سعداء وأخوتهم الليبيون يهنئونهم بالنصر الذي حققه الجيش المصري . في نصر أكتوبر1973 , وجاءت احتفالات الفاتح من سبتمبر في أنحاء ليبيا , وقد قمت بالقاء قصيدة من تأليفي في احتفالات أوباري بعيد الجلاء عن ليبيا , وازالة القواعد الأجنبية من الأراضي الليبية , أعجبت المجتمعين في الاحتفال وصفقوا لها كثيرا , وفي هذا العام توثقت الروابط بيني وبين عدد من الاخوة اللبيين منهم ناظر المدرسة , الذي وعدني بالزيارة في الاسكندرية في صيف العام , وخرجنا معا الى الصحراء في الثانية ( المزرعة ) وكانت زردة فيها خروف مشوي وطعام بدوي رائع , في أحد أيام الأجازات الأسبوعية
.


وقد اشتركت في مكتبة أوباري أو ما يسمى بالمركز الثقافي بأوباري وهي تضم كتب تراثية وحديثة متنوعة , وكنت أقضي معظم أوقات فراغي للاطلاع على تلك الكتب ونهلت كثيرا من المعارف الثقافية عن طريق حبي للقراءة منذ صغري , حتى تكونت لدي قدرة على التأليف والابداع الأدبي في الشعر والنثر , وجمعت مقتطفات من قراءاتي في كشكول كبير أطلقت عليه اسم .( غذاء الفكر وبقاء الذكر ) وظللت أضيف اليه من تأليفي الخواطر الشعرية والنثرية والذكريات الشخصية , وأعجب ما قرأت وفقرات من بعض الكتب وبحوث تعليمية بلاغية وغيرها مما يفيدني في عملي


الى أن أصبح كنزا أحافظ عليه وأنميه في كشاكيل أخرى
.


ولم تشغلني في هذا العام خواطر التفكير في الزواج في فتاة معينة فقد أجلت هذا الموضوع لحين انتهاء فترة الاعارة بعد سنتين قادمتين , كما لم أشغل بالي أيضا بشراء هدايا كثيرة كما حدث في العام الأول والذي استنفذ كل مدخراتي , وبدأت أفكر في استثمار مايمكن توفيره من مرتبي في مشروع لتنمية مدخراتي عن طريق والدي بالبلد , فأخذت أرسل عليه أية مبالغ متوفرة معي , وكان قد تعرف على أحد التجار من الدلنجات أثناء حجه معه , وتحدثا معا عني واقترح على والدي هذا الحاج المدعو دسوقي أن يشاركني في مشروع معمل تفريخ كتاكيت بالدلنجات , وقاما بشراء قطعة أرض مناصفة , ليقام عليها المعمل بنقودي ويكون هذا التاجر شريكا في العمل وتوريد البيض الذي هو تجارته , وادخالها لعيون التفريخ حتى يتم فقس البيض وتوزيع الكتاكيت , على أن يكون شريكا في نصف الأرباح , ويقوم بتسديد نصف قيمة المبنى وتكلفة الانتاج على اقساط مريحة من نصيبه في الأرباح , ووافق والدي وابلغني بذلك برسالة يطلب فيها كل ما يمكن أرساله من نقود فورا . وأشيء المعمل على مساحة أربعة قراريط بعزبة حمودة . بالقرب من منزل دسوقي هذا . وكان يتكون من أثنتا عشرة عينا للتفريخ بطاقة انتاج قدرها ثلاثون ألف كتكوت كل دورة وهي عبارة عن أربعة الى خمسة أشهر تقريبا , ثم يتوقف المعمل مدة شهرين للصيانة والاستعداد للدورة التالية . وهكذا أصبحت من رجال الأعمال في التجارة
.


قارب العام الدراسي 73- 74 على الانتهاء , وكان يوم الجمعة الثاني من فبراير شباط 1974 هو بدء تحرك قطار العمر بعد العقد الثالث من محطات السنين مسجلا ما أجنيه على نفسي من سيئات حاملا بين دواوينه ما تحرك به ضميري من خير أو حسنات حاثا اياي على التزود بكل جميل
,


وأقام لي بعض الزملاء حفلا متواضعا لبلوغي هذه المحطة من سني حياتي , ولعلها تنذرني بقرب انتهاء الشباب , وكنت امتليء بأفراحي النفسية شبابا وحيوية , فقد تجمعت حزمة من الآمال العريضة اخذت تضيء حفلنا البهيج بين راقص ومغن وملحن أنستني كل هموم الحياة والبعد عن الأهل والأحباب وأفراحي معهم بأعياد ميلادي السابقة المليئة بفنون الذكريات السعيدة , وكان من زملائي في هذا الحفل , أحمد داوود الملحن والموسيقي


مدرس الموسيقي بالمدرسة , ويوسف النادى مدير الطرب والغناء مشرف القسم الداخلي , ومحمد حشاد صاحب الطرف والفكاهات النادرة مدرس العلوم وزميل السكن الطيب من كفر الزيات , وأحمد مهنى عندليب الغناء البورسعيدي مدرس الرياضيات , وعبد الرحمن الدراوي الراقص الفنان مدرس التربية الفنية بالمدرسة , وأنا وسطهم المسكين الغلبان القاريء الفصيح مدرس اللغة العربية والدين والمحتفى به , وكنت في الحقيقة نشوان من كل قلبي بهذا الجمع الظريف , وتمر بنا ليلة من ليالي العمر والذكريات التي ستبصح ذكرى لن يطويها النسيان
********

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأوامر الإلهية في الآيات القرآنية

البلاغة والمجاز

الكلام ، والقول والحديث ... ( فروق لغوية )