قطع الأرحام لعنة وفساد في الأرض

مقال أعجبني فأحببته أن أنقله لمزيد من النفع والفائدة لعلنا نتدير آيات القرآن الحكيم من كلام الله تعالى في كتابه:

تأملات في الآيتين (22-23) من سورة محمد

 

    سمعتُ يومًا أحدَ الوعاظ المتحمسين (وقد انتفخت أوداجُه واحمرّ وجهُه وبحّ صوتُه) يتوعّد الذين لا يصلون أرحامهم بلعنة الله لهم، وبالصمّ والعمى، كما وصفهم بأنّهم في الأرض مفسدون، ثمّ تلا قوله تعالى: 

﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾. (محمد:22-23).

    فتساءلت قائلا: إن قطع العلاقات مع الأرحام أمر غير جائز، وغير مقبول، ولكن أيُعقل أن يكون من فعل ذلك مفسدا في الأرض وملعونا وعاقبته الصمّ والعمى؟!

    أيُعقل أن يكون جزاء هذا الفعل أقبح من الكذب والغيبة والنّميمة؟ وأشنع من أكل أموال اليتامى، وشهادة الزور والبهتان؟ وأبغض من الحقد والحسد والرياء؟

    فاحترتُ وانتابني شكٌّ وحيرة وقلق، فعدت إلى الآية أتأملها وأتدبرها، فإذا بي أفاجئ بالآية التي تليها مباشرة تدعو إلى تدبر القرآن كلِّه، وهي قوله تعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾. (محمد: 24).

    فتيقنت أن الفهم السليم للآية لن يكون إلا بعرضها على القرآن كله، وأن البلسم الشافي والجواب الكافي في عرض المشكلة على القرآن كله بعيدا عن منهج الاجتزاء والانتقاء ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾. (النساء: 82).

ومن هنا بدأت رحلة البحث عن الحقيقة:

    رجعت إلى المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم لمحمد فؤاد عبد الباقي باحثًا عن الآيات التي تتحدث عن صلة الأرحام، فإذا بي أفاجئ مرّة أخرى بأنّ هذا المصطلح "صلة الأرحام" غيرُ متداول أصلا في آيات القرآن الحكيم.

    وإنما استعمل الله في كتابه مصطلحات أخرى تدلّ على هذا المعنى، وهي:

"أولو القربى"، "ذو القربى"؛ كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾. (النساء: 08)؛ وقوله تعالى: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾. (الإسراء: 26).

    وينظر لمزيد من الأمثلة: (البقرة: 83)؛ (النساء: 36)؛ (الأنفال: 41)؛ (الروم: 38)؛ (الحشر: 07).

    فليس المقصودُ إذن بتقطيع الأرحام بالمنظور القرآني قطع زيارة الأرحام وصلتهم كما هو متداول.

    ولكن ما المقصود به إذن؟

    يُلاحظ بدايةً ما يلي:

    أولا: إنّ تقطيع الأرحام في القرآن قد ورد مقرونا بالإفساد في الأرض، وذلك في ثلاث آيات هي:

    الأولى: قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ﴾. (البقرة: 27).

    الثانية: قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾. (الرعد: 25).

    الثالثة: قوله تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾. (محمد:22-23).

    ثانيا: وَوَرد تقطيع الأرحام في القرآن مقرونا بالخسران.

    ثالثا: وَوَرد مقرونا بلعنة الله.

    رابعا: وَوَرد مقرونا بسوء الدّار.

    خامسا: كما ورد مقرونا بالصّمّ والعمى.

    أيُعقل أن يكون من لم يصل رحمه مُفسدًا في الأرض، وخاسرًا، وملعونًا، وجزاؤه سوء الدّار، والصّمّ والعمى؟!

    علمًا أنّ جزاءَ المفسد في الأرض تقتيله وصلبه وتقطيع يديه ورجليه من خلاف أو نفيه من الأرض، مع ما في ذلك من خزي في الدّنيا وعذاب في الآخرة مصداق قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾. (المائدة: 33).

    وعلمًا أن النّارَ مصير الخاسر والعياذ بالله، فاقرأ مثلاً قولَه تعالى: ﴿... فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنْ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِي﴾ (الزمر: 15-16).

    ولمزيد من الآيات ينظر: (المومنون: 103)؛ (الشورى: 45).

    وعلمًا أنّ الملعونَ هو المطرود من رحمة الله، 

هذا وقد لعن القرآنُ كلاًّ من:

    أولا: الشّيطان الرّجيم؛ وذلك في قوله تعالى: ﴿لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾. (النساء: 118)؛ وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ﴾. (الحجر: 35)؛ وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ﴾. (ص: 78).

    ثانيا: الكفّار (فرعون وقومه، أصحاب السّبت و بنو إسرائيل الذين حرّفوا الكلم عن مواضعه ونسوا حظًّا ممّا ذكّروا به، عاد قوم هود)؛ وذلك في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا﴾. (الأحزاب: 64)؛ وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾. (البقرة: 161)؛ وينظر لمزيد من الآيات: (آل عمران: 85-87)؛ (النساء: 47)؛ (المائدة: 13)؛ (هود: 60)؛ (هود: 99)؛ (القصص: 42).  

    ثالثا: قاتل النّفس عمدا؛ وذلك في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾. (النساء: 93).

    رابعا: المُلاعِن الكاذب؛ وذلك في قوله تعالى: ﴿وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ﴾ (النور: 07).

    خامسا: الظّالمين؛ وذلك في قوله تعالى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾. (الأعراف: 44)؛ وينظر لمزيد من الآيات: (هود: 18)؛ (غافر: 52).

    سادسا: الذين يكتمون ما أنزل الله من البيّنات والهدى؛ وذلك في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَ﴾. (البقرة: 159).

    سابعا: المنافقين؛ وذلك في قوله تعالى: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا. مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا﴾. (الأحزاب: 60-61).

    ثامنا: شجرة؛ وذلك في قوله تعالى: ﴿... وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا﴾. (الإسراء: 60).

    هذا وإنَّ الله تبارك تعالى يقول: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾. (النساء: 52).

    أيُستساغُ أن يكونَ من لا يصل رحمه ملعونًا منبوذًا لا نصير له؟!

    وعلماً أنّ سوء الدّار يعني الأكل من شجر من زقّوم والشّرب من الحميم إلى غير ذلك من أنواع العذاب –والعياذ بالله- فالله يقول: ﴿هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ﴾. (الواقعة: 56).

    فلا يُعقل أن يكون كلّ هذا الوعيد إضافة إلى الصمّ والعمى لمن لا يصل رحمه، فالمقصود بتقطيع الأرحام ما يلي:

    إنّ الله أمرنا بتدبّر القرآن الكريم فقال: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾. (محمد: 24).

    ووعدنا ببيانه وتوضيحه فقال: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾. (القيامة: 19).

    فالقرآن يفسر بعضه بعضا، ومن هذا المنطلق نقول:

    أولا: إنّ الله قرن الإفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنّسل، فقال: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾. (البقرة: 205).

    فالذي يقطّع الأرحام مفسد؛ والمفسدُ بالتّعبير القرآني مُهلِكٌ للنّسل وللحرث (سبب النّسل) مصداق قولِه تعالى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾. (البقرة: 223).

    ثانيا: إنّ قطعَ الأرحام بالمنظور القرآني هو عدمُ إتيان النّساء في مكان الحرث، وقطعٌ للسّبيل (مكان الحرث) المؤدّي إلى قطع الأرحام (مكان الحمل) ويؤيّد هذا قوله تعالى: ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ. أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمْ الْمُنكَرَ﴾. (العنكبوت: 28-29).

    وكذا قوله تعالى (وهو يتحدّث عن مسار الإنسان مذ كان نطفة إلى موته): ﴿مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ. مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ.ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ.ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾. (عبس: 18-21).

    فمن أنبأ الجنين بالخروج من ذلك المكان بعد تسعة أشهر غالبًا، سالكًا ذلك الطّريق الضّيّق؟! ومن سهّله له ومهّده ويسّره؟!

    إنّه الله تبارك وتعالى بلا ريب.

    فالسّبيل إذن هو مكان الحرث، وقطعه هو عدم إتيان المرأة في المكان المخصّص لذلك، أو مقاطعة جماعها.

    وتجدر الإشارة إلى أنّ البعض فسّر قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ﴾ بقولهم: أرشده إلى طريق الخير.

    والحقُّ أنّ الله استعمل كلمة "الهدى" في ذلك لا "التّيسير"؛ والدّليل على ذلك قوله تعالى: ﴿هل أتى على الإنسان حين من الدّهر لم يكن شيئا مذكورا. إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا . إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾. (الانسان: 02-03)؛ وقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ. وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ الزخرف:36-37)؛ وقوله تعالى: ﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾. (البلد: 10)؛ وقوله تعالى: ﴿ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾. (النساء: 68)؛ ينظر لمزيد من الآيات: (الأنعام: 87)؛ (الصافات: 118)؛ (مريم: 43)؛ (غافر: 38).

    فسبحان الذي أنزل كتابًا مُنسّقا محكما مُتّسقا لا تناقض فيه ولا اختلاف.

    إنّ تقطيع الأرحام إذن هو إتيان الفاحشة (شذوذ، زنى، سحاق)، ويستحقّ صاحبُه الوعيد المذكور سابقا؛ فالله فرض إقامة الحدّ على الزّاني والزّانية دون رحمة ولا شفقة، حيث قال: ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ﴾. (النور: 02).

    فالشّذوذ والزّنى والسّحاق أمور تؤدّي إلى قطع النّسل قطعا، وخراب العمارة فعلا، وإلى فساد أكيد.

    أمّا عدم صلة الأرحام (الأقارب) فلا يؤدّي إلى فساد في الأرض، فلنتأمّل.

    هذا وبالنّسبة للوعد الذي جاء في قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ. وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ﴾. (الرعد: 21-22).

    أيُعقل أن تكون صلةُ الأرحام مُقدَّمةً على خشية الله تبارك وتعالى، وعلى الخوف من سوء الحساب ؟!

    ثمّ إنّ الأمر المدهش أنّ الله تعالى بعد أن ذكر الصّورة الإيجابيّة المتمثّلة في صلة ما أمر الله به أن يوصل (الجماع المشروع)، وبعد أن بيّن حسن مآب صاحبها، ذكر مباشرة الصّورة السّلبية المتمثّلة في قطع ما أمر الله به أن يوصل (فعل الفاحشة) مقرونة بالإفساد في الأرض وبوعيد يتمثّل في اللّعنة وسوء الدّار. ينظر: (الرعد: 21-25).

        ثمّ ختم الله هذا العرض بقوله: ﴿ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ﴾. (الرعد: 26).

فهل عدم صلة الأقارب فرحٌ بالحياة الدّنيا؟ أم أنّ هذا الوصف ينطبق على الذين يتّبعون الشّهوات المحرّمة، ويعزفون عن المتع المشروعة؟!!

    والغريبُ أنّ الله جعل سوء الدّار عاقبة من اتّبع سوء السّبيل (الشّذوذ، الزّنى)، فقد قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾. (الإسراء: 32).

    فالجزاء من جنس العمل كما تُقرّر القاعدة الفقهيّة.

    فسبحان من أنزل قرآنا مبينا لا ريب فيه.

    وينبغي التّنبيه إلى أنّ الله سبحانه سمّى استحياءَ آلِ فرعون لنساء بني إسرائيل سوءا؛ فقال: ﴿ وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾. (الاعراف: 141)؛ ينظر أيضا: (إبراهيم: 06).

    وسبحان الذي سمّى الفسوق سوءا في قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾. (الاعراف: 165).

    هذا وقد قرن الله السّوء بالفحشاء في قوله: ﴿… كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾. (يوسف: 24).

    وقال الله في نفس السورة: ﴿ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ ﴾. (يوسف: 51).

    وقال أيضا: ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾. (يوسف: 53).

    والآيات لا تحتاجُ إلى تعليق.

    وسبحان الذي سمّى عقْرَ ثمودٍ (قوم صالح) للنّاقة سوءًا؛ فقوم صالح خرّبوا رحم النّاقة، فقطّعوا سبيلها حتّى لا تلد، قال تعالى: ﴿ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ. وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ. فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ ﴾. (الشعراء: 155-157).

    وسبحان الله الذي ذكر قوم لوط وفواحشهم مباشرة بعد ذكر عقر قوم صالح للنّاقة!!!

    هذا وقد ختم الله الآيات التي تتحدّث عن عقر قوم صالح للنّاقة بقوله: ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾. (الشّعراء: 159)، وبنفس الآية بالضّبط ختم الله بها الآيات التي تتحدّث عن قوم لوط؛ ينظر: (الشّعراء: 175).

    وسبحان الذي جازى فرعون وآله الذين استحيوا نساء بني إسرائيل باللّعنة وسوء الدّار، وهو نفسُ وعيدِ من قطّعوا أرحامهم؛ فقد قال تعالى: ﴿ يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾. (غافر: 53).

    وتجدر الإشارة إلى أنّ الله قد وصف قوم لوط بأنّهم قوم عادون؛ فقال: ﴿ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ﴾. (الشّعراء: 166).

    فلنتأمل في قوله تعالى بعد أن مدح الذين يأتون أزواجهم وما ملكت أيمانهم في المكان المشروع لذلك: ﴿ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ ﴾. (المومنون: 08).

    ونفس الشّيء بالضّبط تكرّر في سورة المعارج؛ ينظر: (المعارج: 29-31).

    فسبحان الله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا.

    فلا يكون المقصود بذلك (من ابتغى وراء ذلك) إلاّ عمل قوم لوط؛ لسببين:

    الأوّل: لأنّ الله وصف الذين يفعلون ذلك بأنّهم قوم عادون، كما وصف قوم لوط بذلك.

    الثّاني: لأنّ العلم أثبت أنّ المهبل (المكان المشروع للجماع) وراء فتحة الشّرج (المكان المحرّم لذلك) بالضّبط.

    والله أعلم وأحكم.

    فسبحان من قال: ﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ﴾. (الجن: 01-02).

 عمر إبراهيم

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأوامر الإلهية في الآيات القرآنية

البلاغة والمجاز

الكلام ، والقول والحديث ... ( فروق لغوية )