ذكرياتي مع نكسة 5 يونيو
مع ذكرياتي عن نكسة 5 يونيو
المكان : ( معسكر رفح جرادة بالجبهة )
الزمان :( ليلة النكسة 5 يونيو 1967)
الشخوص : ( قيادة اللواء 53 مدفعية ميدان )
الراوي :( جندي مجند مؤهلات عليا : العبد لله الغلبان .)
كنت مكلفا بإعداد دفتر أوامر قيادة اللواء التي تقرأ صباح كل يوم عندما يستقيم طابور الوحدة ويحضر قائد عظيم اللواء ويستعد الجميع لتحية العلم وتوزيع المهام المختلفة
ومن إجراءات تنفيذ ما كلفت به أن أمر علي كتائب اللواء الثلاث لجمع الأوامر والتعليمات من قادة الكتائب مثل تحركات الضباط وتكليفات الجنود ومشاريع كل كتيبة يوميا وتوزيع النوباتجية وكلمة سر الليل وجزاءات الجنود والضباط المخالفين......إلخ
وكان علي أن أرتب كل هذه المعلومات وأنسقها في دفتر قيادة أمر اللواء محتفظا بمستنداتها المعتمدة من الوحدات والكتائب في ملفات خاصة بمكتب القائد وأنهي ما كتبته بعبارة (الله. الوطن. بالأمر) وأضع تحتها اسم قائد اللواء ثم أقوم بعرضها علي سيادته للتوقيع والاعتماد في موعد أقصاه الساعة الحادية عشرة مساءا كل يوم ليكلفني بقراءتها صباح اليوم التالي في الطابور قبل تحية العلم .
وحتى صباح 4 يونيو كانت الأمور التدريبية ورفع درجة الاستعداد على الحالة (ج) أقصى درجات الاستعداد للمعركة . وهذا هو عملي منذ حضرت للمعسكر من التوزيع الأساسي , فأصبحت أعرف أسماء الضباط والقادة والصف ومعظم الجنود في القيادة والكتائب , مثل ( القائد \ اللواء محمد فهمي عبد المجيد , وصلاح الحديدي , والاتربي يونس السقا , والشاذلي ..............) وقد التقيت بالفريق عبدالمحسن مرتجي في مكتب قائد اللواء قبل حرب الخامس من يونيو يأيام قليلة وقمت بتحيته عسكريا . كما زار المعسكر أيضا المشير عبد الحكيم عامر , ورأيته مع القائد والفريق مرتجي وقادة الكتائب .
وكان من عملي أن أحصل للضباط على تصاريح الأجازات معتمدة وكذلك توزيع دور ضابط عظيم كما عرفت بحكم عملي الأوامر التي ستصدر في صباح اليوم التالي قبل غيري من أفراد الوحدات في جميع الكتائب وهذا كله جعل لي مكانة خاصة عند القائد وعند الضباط العظام وقادة الكتائب في اللواء فضلا عن بقية الأفراد من ضباط صف أو جنود مجندين أو متطوعين
والعجيب في هذا الأمر أنني ومعي سلاحي البندقية النصف آلية (لي أنفيلد) لم أشترك يوما في أي تدريب علي السلاح ولم يدرج اسمي ضمن أي مشروع لضرب النار استعدادا لاستخدام هذا السلاح عندما تنشأ معركة أو حتي معرفة كيفية الدفاع عن نفسي به، وبذلك كنت أجهل فرد في اللواء حربيا وكانت كل معلوماتي قاصرة علي ما تدربت عليه في فترة الأساس في معسكر أول تجنيد عندما دخلت العسكرية لمدة 45 يوما وكلها معارف عن فك وتركيب وتنظيف السلاح , وكيفية استخدامه نظريا بدون ذخيرة ,غيرمرة واحدة قمت بالتدريب العملي على التبة للتنشين وضرب النار ؟!!!
نعود الى تجميع الأوامر والمعلومات ليلة النكسة الخامس من يونيو هرج ومرج في (ميز الضباط) وهو مكان تجمع الضباط للطعام من كل الكتائب وقيادة اللواء الساعة العاشرة مساءا وكان علي أن انتظر حتي ينصرفوا الى وحداتهم للمرور عليهم لأخذ الأوراق التي سأسجلها في دفتر الأوامر , وسمعت الهرج يزداد وتعم الفوضى قيادة اللواء بعد انصراف ( الميز ) ولما سألت ضابط عظيم وحدة قيادة اللواء عن سر تلك الفوضى والحركة الكبيرة ,أجابني بسرعة وهو يهم بركوب سيارة المتابعة ( الزيل الروسي ) الجيب : أصل اللواء......... غير موجود الليلة .
ليس لك عندي أوامر اليوم يا محمد . وكانت هذه المرة الأولى التي لم أتلق من قيادة اللواء أية تعليمات لدفتر الأوامر , أما نداءه لي يا محمد فكنت الجندي المجند الوحيد الذي أحظى بشرف النداء باسمي , أما غيرى فينادون يا جندي أو يا عسكري أو يا نمرة! واستغربت ولم أستطع سؤاله وحضرتك يافندم رايح فين قبل ما تأخذ أسماء نوبتجيات الحراسة للمتابعة؟ كان قد ركب سيارته وانطلق بها خارجا من الوحدة!!
توجهت الى قيادة الكتيبتين الأولى ثم الثانية وبعدهما بمسافة كبيرة الى الكتيبة الثالثة وكنت أمر بخيام الجنود المتناثرة في أرض اللواء والتي كانت تموج بحركة غيرعادية وضوضاء كبيرة في هذا الوقت من الليل , والغريب
أنني لم أجد أية رتبة من الضباط المسئولين بالكتائب , وقال لي زملائي : انهم تركوا المعسكر , وكل يهرول للحاق بزملائه في السيارات الجماعية أو الفردية دون أن يتركوا أية تعليمات لأحد من الكتيبة . وتأكدت بنفسي من أماكن تواجدهم فلم أعثر لهم على أثر , وعدت أدراجي الى قيادة اللواء خالي الوفاض , وتوجهت الى مقر القيادة وسلمت الدفتر لصف ضابط كان يقف أمام خيمة قائد اللواء , وأسرعت عائدا الى زملائي بخيمتي لأعرف ماذا يجري فيها , فوجدت الجميع قد حملوا أطعمة وزخيرة وزمزميات مياه , ورأيت باب كا نتين الوحدة مفتوحا , وبعض الجنود يخرجون منه ومعهم صناديق بسكويت . وقطع عجوة كبيرة , وهم في هلع وخوف , ورافقت زميل لي اسمه ( وهبه كحيم وهبه ) وهو مهندس مجند معي من أسوان , وزميل آخر اسمه : محمد عرفه يونس .
وغادرنا المعسكر تقريبا الساعة الثانية بعد منتصف الليل مهرولين خلف بقية الجنود وضباط الصف المنسحبين , في اتجاه العريش .
ووصلت الى أسماعنا أصوات جنازير دبابات تتحرك بسرعة وراءنا , وهي تطلق من آن لآخر داناتها المدوية , ومع تباشير الفجر كانت الطائرات ( من الميراج وغيرها ) تملأ الجو فوقنا غادية ورائحة , وصمت آذاننا الانفجارت الرهيبة الآتية من أمامنا وخلفنا في مخازن الوقود في المعسكر , وشاهدت كلابا مزعورة تجرى بين أشجار الزيتون التي نعدو فيها نحو العريش , ولف المكان دخان الدانات المنطلقة من الدبابات والطائرات والمدفعية , تأكدت ساعتها أن القيامة قد قامت وأننا بدأنا الحرب .
وقبل أن نصل الى العريش علمنا أن الانفجارات التي أتتنا من فترة كانت عبارة عن تدمير كامل لجميع مرابط الطائرات في مطار العريش ومخازن الوقود والممرات والمدارج .
ولم تأت الساعة الحادية عشرة صباحا حتى سمعنا في اذاعتنا عن اسقاط 23 طائرة للعدو , ثم وصل العدد بعد فترة الى 43 طائرة والجماهير تهتف فرحة . ونحن في ذهول لما يدور حولنا .
اضطرتنا دانات مدافع الدبابات المتهاوية أن نتوجه الى الصحراء خارج المناطق السكنية بعيدا عن العريش ومعسكر الأبطال الذي احتلته اسرائيل .
وأخيرا عرفنا سر هروب قادة اللواء والكتائب بالسيارات ليلة أمس الى القاهرة والاسماعيلية , تاركين الجنود دون قيادة أو أية تعليمات للانسحاب المنظم أو لصد الهجوم المتواصل علينا .
كنا كمجموعات من النمل هيجها آكل النمل من جحورها في الدشم والخنادق والخيام فراحت تنتشر خائفة في كل اتجاه , الا اتجاها واحدا وهو البحث عن دليل لها لتنجو من الفزع المحدق بها .
وأتيح لمجموعتنا الفرصة لوجود هذا الدليل , وكان ضابط صف برتبة نقيب اسمه ( ابراهيم عطا ) أخذ يبث فينا بصيصا من الأمل في النجاة لو التزمنا بتعليماته . والحقيقة كان مخلصا في نصحه وبمثابة أب لنا في تعامله وعطفه , وكان فيه من طيبة أهل الريف المخلصين , واستمعنا لتوجيهاته وجعلناه قائدا لنا في مسيرة الانسحاب أو التراجع والعودة . وكان أول مانصحنا به أن نسير بعيدا عن بعضنا البعض , وأن نبتعد عن الطرق المرصوفة التي ملأتها الدوريات الاسرائيلية اللاسلكية , وأن يظل الطريق الممهد بحذائنا على بعد حتى لانتوه في الصحراء الشاسعة , وألايترك أحد منا سلاحة حتى الموت , وأن نقتصد في استهلاك المياه للاحتفاظ بها أطول فترة ممكنة , وأن نشترك معا فيما معنا من الطعام والشراب والذخيرة , وذلك لتقليل الخسائر بيننا الى أقل درجة ممكنة .
وازداد لهيب الجو من الشمس ونيران الطلقات والعطش مع حرارة يونيو القاتلة , وكأن القيامة أوشكت على القيام ونحن نرى المدن والقرى تدمر واحدة بعد الأخرى على طول الطريق كلما وصلنا الى واحدة سمعنا أن الاسرائيليين سبقونا اليها . وكنا اذا احتمينا في ظل واد من النخيل أو أشجار الزيتون تنهال علينا الطلقات كالوابل من كل اتجاه , فنجري تاركين المكان وننبطح على الأرض فوق الرمال الحارقة متجهين الى قلب الصحراء للنجاة من الموت المحقق , وكان الكثير من زملائي يسقطون قتلى أمامنا ولا نملك أن نصنع لهم شيئا وسط تتابع الرصاص والقذائف , ونفد منا الماء والطعام الا بعض أكياس البسكويت العسكري الجاف , وكنا نقتسم البسكويتة الواحدة على اثنين من الأفراد . في اليوم . مر علينا حتى هذه اللحظة أسبوعا كاملا ونحن وسط الصحراء .
كنا قد جاوزنا بئر العبد . وقابلنا بعض الجنود قادمين منها , وأخبرونا أن هناك قطارا حربيا مضروبا يحمل شحنة من الدقيق كانت في طريقها الى معسكرات الجبهة . وقد أحضروا منه بعض الدقيق , وتوجه زملاء جائعون منا الى هناك بعد استئذان الضابط ( ابراهيم عطا ) لينوبوا عن الباقين في احضار كمية من الدقيق لنتقوت منها , وكانت مغامرة كبيرة , لم يتحمل الاذن بها الوالد القائد ( ابراهيم عطا ) وانتظرنا حتى أتى الظلام
وذهب ثلاثة من الجنود الى هناك وأحضروا فعلا جوالا مفتوحا به كمية كبيرة من الدقيق .ووزعوه علينا ,ولم نستطع أن نشعل نارا في الليل حتى لاتراه الطائرات فتلقي علينا لهيبها القاتل وتكتشف أماكننا , وأخذ كل منا يبحث عن مكان لينام فيه في نهاية الليل حتى الصباح لنستريح قليلا مما لاقيناه من هول الطريق . وبجوار تل صغير من الرمل نبتت عليه الحلفاء ألقيت بجسمي لأتمدد وأنا أردد الشهادة فربما لايمكنني القيام من هذا المكان الا ميتا , ووضعت بجواري بندقيتي , وأغمضت عيني , وعلى مسافات قريبة من بعضنا فعل الجميع مثل ذلك , فكنا نخاطب بعضنا ونسمع بعضنا ونشجع بعضنا على التحمل والصبر , وعند بزوغ الفجر وظهور يباشير الضوء فتحت عيني فوجدت ثعبانا يتمدد بطول البندقية التي كانت تفصل بيني وبينه , وكانت أقل حركة مني كفيلة بأن يلدغني لدغة قاتلة , وكررت في نفسي شهادة أن لااله الا الله , ولم أتحرك , حتى بدأ قرص الشمس يظهر , وسمعت نداء زملائي لأقوم . ورأيت الثعبان يسحب نفسه مختفيا داخل الحلفاء فوق التل الذي أنام محتميا به . وأطلقت ساقاي للريح بعيدا عن المكان . وحمدت الله . ثم بحثنا عن ماء ووجدنا بعض الأعراب في الصحراء يرعون , وأخذوا مني الكمامة الواقية مقابل زمزمية ماء .
وجمعنا بعض الأحطاب وقطع الخشب الصغيرة , وحفرنا حفرة وعملنا ما يشبه ( الكانون ) , وقمت بعجن كمية الدقيق داخل الخوذة من الزمزمية , ثم قلبت الخوذة , ووضعت الحطب وقطع الخشب , وأعطاني الضابط كبريتا وأشعلنا النار وقمنا بخبز العيش فوق الخوذة نصف تسوية وبدأنا نلتهمه من الجوع وكان لذيذا وجميلا بدون لا ملح ولا حتى تسوية كاملة .
وبمجرد ارتفاع الشمس بدأت تظهر أسراب طائرات الميراج من جديد وتطلق القنابل على الجنود في الصحراء وكان بعضها ( نابالم ) حارق , وفجأة أصيب الضابط ( ابراهيم عطا ) بشظية كبيرة قطعت ساقه وهو منبطح على الأرض وسالت دماؤه بغزارة , ولما انتهت الغارة أقبلنا عليه , ومزق أحد الزملاء سترته ورحنا نربطها على بقية رجله أو نصف فخذه المتهرئة وهو يصرخ من الألم , ونحن نحاول أن نتماسك وبعضنا غلبته الدموع وبكينا , ضاع الدليل , فقدنا الأب الرحيم والقائد الموجه , ضعف صوته , وحملناه على بطانية كانت مع أحد الجنود , بضع أمتار , لكنه لم يتحمل قال : أنزلوني : يا محمد أنا من قرية ( الصفاصيف ) مركز دمنهور , أرجوكم أن تبلغوا أهلي هناك , استمروا في السير لقد اقتربتم من قناة السويس , اتركوني أنا حتى لاأكون عبئا عليكم . كانت كلماته كالسكاكين التي تقطع أكبادنا , ورفضنا أن نتركه وأرحناه قليلا ثم حملناه من جديد , وتبادلنا حمله . حتى لفظ أنفاسه الأخيرة , وقمنا بدفنه في الصحراء وبكينا عليه وقرأنا له الفاتحة , وأخذ زميل لنا بطاقته معه ليوصلها الى زوجته وابنه محمود الذي أخبرنا باسمه .
أخذا معنا سلاحه ودعونا له بالرحمة , وواصلنا السير . وكلما حاولنا أن نعبر الطريق المرصوف الذي يفصلنا عن البحر المتوسط الذي كنا نراه من بعيد ,شاهدنا دوريات العدو فتوقفنا . حتى اقترب المساء , وقررنا أن نعبرالطريق زحفا على بطوننا , وكانت كشافات قوية تسلط الضوء على العابرين ثم نجد الطلقات قد انهالت علينا بغزارة , وأصبت بشظية مرت على ظهري وأحرقت السترة وتركت أثرها على جلدي وبقيت آثارها حتى اليوم كعلامة فوق العمود الفقري . كان عددنا قد وصل تقريبا الى سبعة أفراد . وقابلنا للمرة الثانية أعرابا يرعون تحت سفح أحد التلال العالية الشبيهة بالجبل تفصلنا عن الطريق , وقالوا لنا ندلكم على معبر الى القناة وتعطونا سلاحا , ورفض كل واحد منا أن يعطيهم سلاحه , فقال أكبرنا نعطيهم سلاح المرحوم ابراهيم عطا . ولم يرد أحد , وفعلا أعطاهم اياه , وأخذنا واحد من الأعرابيين الى أعلى مكان في التبة الرملية , وقال اصعدوا من هنا وسوف تجدون تجمع المصريين خلفها حول بئر ماء يرتوون , وفرحنا لأن الماء كان قد نفد منا كله .
وصعدنا في تردد وأول واحد وصل الى القمة أعطانا اشارة أن تحت السفح فعلا فيه جنود يشربون من البئر , وأسرعنا نلهث والرمال تنهال تحت أقدامنا حتى وصلنا للقمة وبدأنا ننزل مندفعين الى السفح دون أن ندري .كان هذا ليس الا كمينا لنا حيث تم أسر المجموعة كلها وبعد أن شربنا الماء , أركبونا سيارات مظلمة وعادوا بنا الى معسكر الأبطال بالعريش الذي كانت تحاصره الدبابات الاسرائيلية والمدافع من كل اتجاه .
سمعنا أن الرئيس عبد الناصر قد أعلن تنحيه عن الرئاسة وكان ذلك يوم التاسع من يونيو . تأكد لنا أن في الأمر خيانة . فهل يمكن أن تتركنا القيادة هكذا لنلقى هذا المصير والهزيمة ؟!!
وبدأت مرحلة جديدة من الحياة في الأسر .
سطور من آلام الذكريات . من قصة حياتي .
تعليقات