تعليق مفصل على متمردة
قرأت القصيدة
وقرأت الإضاءات و لكم الشكر و التقدير
قرأت القصيدة و من خلال قراءتها أحاول التموضع في إطارها و ملامسة بعض مما تحمله أو بعض من تلك الإشارات التي أطلقتها
النص كما قدّم هنا مكوّن من مقطعين
الأول: ماقاله الغير
الثاني ما قالته الشاعرة
ثنائية الأنا والآخر، أو الآخر والتعرف على الذات، خاض فيها الكثيرون، فمجرد ذكر قول الآخر فهو اعتراف بوجوده و بكونه يشكلّ جزءا من اهتماماتك.رغم أن القصيدة في جزئها الأول تنقل نقد الآخر للذات الذي يحاول فرض سطوته على "الشاعرة"، فاستشعارها لهذه السلطة جعلها تعنون نصّها بالتمرّد، فالباحث عن التمرد، لابدّ تثيره هذه الحدّية التي بني عليها النص، من حيث ضمور الموقف الوسط. لست هنا بصدد التأصيل لإسقاط ما أو حتى مماثلة بناء القصيدة لأزمة الثقة التي تنخر المجتمع، لأن النص تعالى بشكل من الأشكال عن الوجع المشترك مجتمعيا وتوجه لتأسيس تقابل آخر له تمظهراته الثقافية، وهوصراع "ذكر ـ أنثى" أو بشكل أدق "رجل ـ امرأة" النص ركز على الصراع بين الجنسين وسكت عن تكامليتهما في بناء المجتمع
الحب هو المطية التي اختارتها الشاعرة لإبراز هذا الصراع غير المعلن على الأقل مؤسساتيا بين الجنسين
الحب هو عاطفة، الحب هو تدفق وجداني، والمرأة عموما رمز من رموز الوجدان الحيّ، لذلك اختارت الشاعرة أن تجعل من الآخر يسدّد ضرابته في صلب الوجود المعنوي للمرأة، تصور امرأة لاتحب، امراة وأدت عاطفتها، امرأة تزغرد عندما تكسر قلب رجل، تصور امرأة ميتة المشاعر، هكذا يحاول الآخر في نظر الشاعرة توجيه سهامه إلى الذات " الذات الجمعية للنساء
الحب رابطة، والروابط رغم أصلها الغريزي فالعقلانية هي ما يؤسس لاستدامتها و موضعتها داخل نسق شمولي جمالي وأخلاقي ومعرفي و وجودي، تلك الذات العاقلة، هنا نلاحظ استعمال لفظة الأنثى في قول الآخر بدل المرأة، فالحديث عن المرأة يوحي بالإنسانية والعقلانية، والحديث عن الأنثى يشير على الغريزة و الجسد
من البيت الأول إلى التاسع كانت الشاعرة، تطرح ما يعيب به الذكور المرأة وفي البيت التاسع تحديدا ردّت بأن ذلك صحيح فقط عند الأنثى المتبلّدة، غير العاقلة، البليدة. وهنا عارضت الفكرة ولم توافق عليها لأنها تعتبر المرأة عاقلة وهذا ما ركزت عليه في ردها القوي من البيت الحادي عشر إلى الخامس عشر
تقول الشاعرة في دفاعها عن المرأة، أنا أحب و أنا وفية للحب كرابطة عقلية راسخة كوفاء المتعبد، استعمال الأنا هنا ليس اعتباطيا كما يبدو بل الأنا والذات هي شعار الرومنسية التي جاءت لتقويض الكلاسيكية التي تعتبر الماضي هو المثال، وتقتصر في نظرها للحاضر بكونه ميدان انحلال وتفسخ وجب الرجوع به إلى عالم المثال، فالرومنسية هي إعادة الاعتبار لفعالية الأنا بكونها مسؤولة عن حاضرها و ليست مجرد انعكاس للماضي، فالرومنسية هي الإيمان بفعالية الذات و انفتاح على الخيال والمستقبل، أي ذهن ولاّد وخلاق، وهذا ما تمظهر عندما اعتبرت الشاعرة الحب لوحة، والفن عموما هو تذوق للجمال لا يحصل إلا في سياق عقلاني، عقل يقرأ اللوحة ويجدّدها، بتعبير آخر بخياله يفتح آفاق قرائية جديدة، وهنا لم تقل الشاعرة ظهرت متجدّدة بل أبصرتها متجدّدة، والبصر هنا له علاقة بالبصيرة وليس مجرد إدراك حسي غريزي. وأضافت أنها منفتحة على المعيقات و قادرة على إيجاد الحلول للمشكلات التي قد تعرقل الحب و تتعامل بإيجابية مع الموقف
وفي الأخير قالت أنّ الحنين إذا أخطأ طريقه، أي أن الحب إذا لم يكن متبادلا ولم تستطع العلاقة "رجل ـ امرأة" أن تكون على هذا الشكل المتكامل العقلاني فقولوا ماشئتم، وهنا في البيت السادس عشر رجعلت إلى الآخر لتقول له إن صورتك للمرأة غير سليمة، وإن كنت لا تزال متماديا في ظنك، فأنا فعلا متمردة على هذا التصوّر وعلى هذه الرؤية الخاطئة، أنا متمرّدة أي قادرة على التمرّد و دخول صراع "الأنا ـ الآخر"
النص في المجمل هو دعوة إلى "الكينونة مع" التي أشر عليها هايدكر رغم عنوان التمرد الذي يحمله، الذي قد يبدو منطق إقصاء وانغلاق
قرأت القصيدة و من خلال قراءتها أحاول التموضع في إطارها و ملامسة بعض مما تحمله أو بعض من تلك الإشارات التي أطلقتها
النص كما قدّم هنا مكوّن من مقطعين
الأول: ماقاله الغير
الثاني ما قالته الشاعرة
ثنائية الأنا والآخر، أو الآخر والتعرف على الذات، خاض فيها الكثيرون، فمجرد ذكر قول الآخر فهو اعتراف بوجوده و بكونه يشكلّ جزءا من اهتماماتك.رغم أن القصيدة في جزئها الأول تنقل نقد الآخر للذات الذي يحاول فرض سطوته على "الشاعرة"، فاستشعارها لهذه السلطة جعلها تعنون نصّها بالتمرّد، فالباحث عن التمرد، لابدّ تثيره هذه الحدّية التي بني عليها النص، من حيث ضمور الموقف الوسط. لست هنا بصدد التأصيل لإسقاط ما أو حتى مماثلة بناء القصيدة لأزمة الثقة التي تنخر المجتمع، لأن النص تعالى بشكل من الأشكال عن الوجع المشترك مجتمعيا وتوجه لتأسيس تقابل آخر له تمظهراته الثقافية، وهوصراع "ذكر ـ أنثى" أو بشكل أدق "رجل ـ امرأة" النص ركز على الصراع بين الجنسين وسكت عن تكامليتهما في بناء المجتمع
الحب هو المطية التي اختارتها الشاعرة لإبراز هذا الصراع غير المعلن على الأقل مؤسساتيا بين الجنسين
الحب هو عاطفة، الحب هو تدفق وجداني، والمرأة عموما رمز من رموز الوجدان الحيّ، لذلك اختارت الشاعرة أن تجعل من الآخر يسدّد ضرابته في صلب الوجود المعنوي للمرأة، تصور امرأة لاتحب، امراة وأدت عاطفتها، امرأة تزغرد عندما تكسر قلب رجل، تصور امرأة ميتة المشاعر، هكذا يحاول الآخر في نظر الشاعرة توجيه سهامه إلى الذات " الذات الجمعية للنساء
الحب رابطة، والروابط رغم أصلها الغريزي فالعقلانية هي ما يؤسس لاستدامتها و موضعتها داخل نسق شمولي جمالي وأخلاقي ومعرفي و وجودي، تلك الذات العاقلة، هنا نلاحظ استعمال لفظة الأنثى في قول الآخر بدل المرأة، فالحديث عن المرأة يوحي بالإنسانية والعقلانية، والحديث عن الأنثى يشير على الغريزة و الجسد
من البيت الأول إلى التاسع كانت الشاعرة، تطرح ما يعيب به الذكور المرأة وفي البيت التاسع تحديدا ردّت بأن ذلك صحيح فقط عند الأنثى المتبلّدة، غير العاقلة، البليدة. وهنا عارضت الفكرة ولم توافق عليها لأنها تعتبر المرأة عاقلة وهذا ما ركزت عليه في ردها القوي من البيت الحادي عشر إلى الخامس عشر
تقول الشاعرة في دفاعها عن المرأة، أنا أحب و أنا وفية للحب كرابطة عقلية راسخة كوفاء المتعبد، استعمال الأنا هنا ليس اعتباطيا كما يبدو بل الأنا والذات هي شعار الرومنسية التي جاءت لتقويض الكلاسيكية التي تعتبر الماضي هو المثال، وتقتصر في نظرها للحاضر بكونه ميدان انحلال وتفسخ وجب الرجوع به إلى عالم المثال، فالرومنسية هي إعادة الاعتبار لفعالية الأنا بكونها مسؤولة عن حاضرها و ليست مجرد انعكاس للماضي، فالرومنسية هي الإيمان بفعالية الذات و انفتاح على الخيال والمستقبل، أي ذهن ولاّد وخلاق، وهذا ما تمظهر عندما اعتبرت الشاعرة الحب لوحة، والفن عموما هو تذوق للجمال لا يحصل إلا في سياق عقلاني، عقل يقرأ اللوحة ويجدّدها، بتعبير آخر بخياله يفتح آفاق قرائية جديدة، وهنا لم تقل الشاعرة ظهرت متجدّدة بل أبصرتها متجدّدة، والبصر هنا له علاقة بالبصيرة وليس مجرد إدراك حسي غريزي. وأضافت أنها منفتحة على المعيقات و قادرة على إيجاد الحلول للمشكلات التي قد تعرقل الحب و تتعامل بإيجابية مع الموقف
وفي الأخير قالت أنّ الحنين إذا أخطأ طريقه، أي أن الحب إذا لم يكن متبادلا ولم تستطع العلاقة "رجل ـ امرأة" أن تكون على هذا الشكل المتكامل العقلاني فقولوا ماشئتم، وهنا في البيت السادس عشر رجعلت إلى الآخر لتقول له إن صورتك للمرأة غير سليمة، وإن كنت لا تزال متماديا في ظنك، فأنا فعلا متمردة على هذا التصوّر وعلى هذه الرؤية الخاطئة، أنا متمرّدة أي قادرة على التمرّد و دخول صراع "الأنا ـ الآخر"
النص في المجمل هو دعوة إلى "الكينونة مع" التي أشر عليها هايدكر رغم عنوان التمرد الذي يحمله، الذي قد يبدو منطق إقصاء وانغلاق
الأساتذة الكرام
تحية طيبة وبعد
القراءات الثلاث تؤرخ عمليا للمسيرة النقدية الشرق- غربية. الرؤية الأولى للفاضل المربي محمد فهمي يوسف تعكس الطريقة التعليمية المدرسية الشارحة. وبالتأكيد هذا هو الهدف من عرض النصوص وسبر لغتها وتتبع مفرداتها ثم ربطها بهدف النص وغايته. وفي أصولها تعود إلى الطرح "النحوي" الذي تسيد النهج المدرسي اللاتي-روماني. والنحو هنا ليس مقصورا على ما نسميه درس "القواعد"، بل يعني قراءة النصوص عامة شعرا ونثرا قراءة سليمة "مسموعة" ثم التعليق عليها ومقارنتها بغيرها وتتبع أصول مفرداتها والتطرق إلى الاستعارة والمجاز وصورها البلاغية. واستمر هذا النهج مهيمنا حتى الحقبة الزمنية المسماة حديثا: الحقبة الحديثة المتقدمة أو الأولى (Early Modern Period) ويؤرخ لها من عام 1480 إلى 1660م (هذا بطبيعة الحال تاريخ "رسمي") ثم تبدأ الحقبة الحديثة مع اكتساب اللغات الوطنية المحلية أهميتها القومية والكتابة بها. فالمجتمع المتعلم قبلها كان يكتب ويتحدث في المناسبات الرسمية باللاتينية أو الإغريقية. حتى المدارس ما قبل الجامعة كانت تسمى مدارس النحو أو المدارس النحوية
هذا النهج مفيد جدا. فشرح النص والتعليق على مفرداته وعلاقاتها النحوية في الجمل يساعد على بناء القاموس الفردي وبناء التراكيب القوية (السبك المحكم) لأن الهدف كان تخريج الخطباء البلغاء. وهدف الخطباء البلغاء هو البلاط (بلاط السلطة). أبو حيان التوحيدي رفع البليغ فوق مرتبة الحاسب لأن السلطان أحوج للبلاغة من حاجته لغيره، والبلاغة من ثم هي "سلة الخبز". في عصور المماليك كان العرب بينهم هم القضاة والكتاب فقط وكذا كان الوضع مع العثمانيين
أهم ما في المدرسة النحوية كان "الصوت" أو الإسماع (البريد بين المرسل والعنوان الدقيق)، فلذلك وجب أن تكون القراءة قراءة صوتية مسموعة. في العربية جاءت النقط والتشكيل لتضمن القراءة الصحيحة السليمة وإخراج الصوت المناسب ليس فقط لتفشي اللحن وأهمية قراءة القرآن الكريم وإنما أيضا لقراءة المكتوب قراءة صحيحة حتى لا تتكرر مأساة المساجين لغياب نقطة أو همزة بين (أحصهم و اخصهم). وهذا ما يصر عليه أيضا القائمون بأمر النقد الملتقاوي. ويبدو أن ثمة أساسا للتأثير الغربي على التعليم العربي. البيزنطيون النصارى أغلقوا الأكاديميات الأغريقية في القرن الخامس و/أو السادس الميلادي لأسباب دينية وعداء للفلسفة، فحطت رحالها في الاسكندرية وأعادت الاهتمام باللغة اللاتينية وتقعيدها وألفت الكتب النحوية التعليمية
في العصر الحديث وقع اتصال العرب بالغرب على مستوى واسع في القرن التاسع عشر مع نضج التوسع الاستعماري الغربي وسهولة المواصلات، وفي هذه الفترة كان التوجه الرومانسي أو بقاياه سائدا. كان أهم ركائزه "المؤلف" خاصة الشاعر وشعره. هذا المبدع الغريب الذي لديه مداخل إلى الحقيقة لا يمتلكها غير الشعراء. فأصبحت لغته وسيرته الذاتية وكل ما يتعلق به مفاتيح لمغالق شعره فظهر نقد السيرة. إذ أصبحت مهمة الناقد جمع بيانات الشاعر وتتبعها في شعره وتفسيره لدرجة غابت قصائده تحت أكوام المعلومات الشخصية. هنا تحولت "شخصيته" إلى بؤرة ينطلق منها الدرس النقدي والأدبي، فصرت تسمع عن "عاطفة الشاعر وصدقها" وتصويره للطبيعة بحيوية ناطقة وتأخذ عنه معايير الحياة وقيمها: أصبح الشاعر نبيا
لا زال النهج المدرسي اللاتيني والرومانسي قائما في المرحلة التعليمية الإلزامية (ما قبل الجامعة) والتعليم الجامعي العربي سليل التعليم الإلزامي. لذلك ليس للعرب نظرية نقدية أو أدبية غير ما جاد به النحويون والبلاغيون القدماء وقد أبدعوا في عرض مادتهم وتعليمها وحفظها، لكنهم أو من جاء على أثرهم لم يستطيعوا أن يخرجوا من أطرها وسياجها. الموروث أصبح مقدسا قدسية الدين والخروج عليه كفر. حتى الهمزة أصبحت معيارا على درجة من الأهمية والويل والثبور وعظائم الأمور لمن أهملها عن علم والتوجيه اللطيف المشروط بعدم اهمالها بعد التوجيه اللطيف. يريدونك أن تعود لمرحلة معينة من تاريخ الكتابة العربية. مقبول كل ما يضمن سلامة الصوت (زلت اللسان عار وزلت القلم شنار) من النقط والشكل والترقيم وما قد يستجد من الأعراف. (عندي طبعة مطبوعة لمقدمة ابن خلدون ليست بها فواصل أو فقرات أو همزات فكيف كانت في مخطوطتها قبل الطبع؟)
سلامة اللغة بالتأكيد مهمة، وممارسة الكتابة تكون مثمرة حين يكون لتعليمها منهجية وهدف، والكتابة النقدية لابد لها من إطار نظري ومنهجية صارمة وأسلوب عرض خال من الدهون والاستطراد الزائد، تبدأ من نقطة وتثبتها وتنتهي، لا أن تكون البيان والتبيين ولا أن تكون أطروحة جامعية يجر كاتبها مجلداتها الستة على ناقلة ويفتخر
قراءة الفاضل محمد فهمي يوسف جاءت ضمن هذا السياق النقدي التاريخي وفرّع عليها الأستاذ عمار عموري وعمقها ولعل بعض العجلة النتية لم تسعفه ليربط ملاحظاته في خاتمة تقييمية. قراءة الأستاذ نور الدين لعوطار اختارت الهوة بين الأنا والآخر ومضى بها راتقا الفجوة بعدة خيوط ليجمع الأنا بالآخر والقبول أخيرا بـ"العيش مع" (الكينونة في الكون مع [الآخر]). ميولي طبعا مع قراءة لعوطار، لكن هل كان يستطيع هو أو غيره دون معرفة ما جاد به الأستاذين قبله؟ لا أظن أن ناقدا يستطيع ذلك لو لم يكن يعرف اللغة وما تكتنزه من ذاكرة وأعراف بلاغية. الطرح المدرسي مهم ومهم جدا لممارسة الكتابة النقدية الحديثة. فمن لا يعرضها في طرحه هو بالتأكيد يفترضها بمن يقرؤن ما يكتبه الناقد
لو كنت ناقدا لقرأت القصيدة من مركزية الرواية (narrative/recit). فالمقطوعة الأولى رواية الشاعر(ة): "يقولون" ثم تتحدث بلسانها لتروي محاسنها. فالكلمة الأخيرة كما هي الكلمة الأولى لها وحدها، وروى غيرها: (يقولون أنك خنت حبي/ ولم تحفظ هواي ولم تصني
تقبلوا تحياتي وتجاوزوا
تحية طيبة وبعد
القراءات الثلاث تؤرخ عمليا للمسيرة النقدية الشرق- غربية. الرؤية الأولى للفاضل المربي محمد فهمي يوسف تعكس الطريقة التعليمية المدرسية الشارحة. وبالتأكيد هذا هو الهدف من عرض النصوص وسبر لغتها وتتبع مفرداتها ثم ربطها بهدف النص وغايته. وفي أصولها تعود إلى الطرح "النحوي" الذي تسيد النهج المدرسي اللاتي-روماني. والنحو هنا ليس مقصورا على ما نسميه درس "القواعد"، بل يعني قراءة النصوص عامة شعرا ونثرا قراءة سليمة "مسموعة" ثم التعليق عليها ومقارنتها بغيرها وتتبع أصول مفرداتها والتطرق إلى الاستعارة والمجاز وصورها البلاغية. واستمر هذا النهج مهيمنا حتى الحقبة الزمنية المسماة حديثا: الحقبة الحديثة المتقدمة أو الأولى (Early Modern Period) ويؤرخ لها من عام 1480 إلى 1660م (هذا بطبيعة الحال تاريخ "رسمي") ثم تبدأ الحقبة الحديثة مع اكتساب اللغات الوطنية المحلية أهميتها القومية والكتابة بها. فالمجتمع المتعلم قبلها كان يكتب ويتحدث في المناسبات الرسمية باللاتينية أو الإغريقية. حتى المدارس ما قبل الجامعة كانت تسمى مدارس النحو أو المدارس النحوية
هذا النهج مفيد جدا. فشرح النص والتعليق على مفرداته وعلاقاتها النحوية في الجمل يساعد على بناء القاموس الفردي وبناء التراكيب القوية (السبك المحكم) لأن الهدف كان تخريج الخطباء البلغاء. وهدف الخطباء البلغاء هو البلاط (بلاط السلطة). أبو حيان التوحيدي رفع البليغ فوق مرتبة الحاسب لأن السلطان أحوج للبلاغة من حاجته لغيره، والبلاغة من ثم هي "سلة الخبز". في عصور المماليك كان العرب بينهم هم القضاة والكتاب فقط وكذا كان الوضع مع العثمانيين
أهم ما في المدرسة النحوية كان "الصوت" أو الإسماع (البريد بين المرسل والعنوان الدقيق)، فلذلك وجب أن تكون القراءة قراءة صوتية مسموعة. في العربية جاءت النقط والتشكيل لتضمن القراءة الصحيحة السليمة وإخراج الصوت المناسب ليس فقط لتفشي اللحن وأهمية قراءة القرآن الكريم وإنما أيضا لقراءة المكتوب قراءة صحيحة حتى لا تتكرر مأساة المساجين لغياب نقطة أو همزة بين (أحصهم و اخصهم). وهذا ما يصر عليه أيضا القائمون بأمر النقد الملتقاوي. ويبدو أن ثمة أساسا للتأثير الغربي على التعليم العربي. البيزنطيون النصارى أغلقوا الأكاديميات الأغريقية في القرن الخامس و/أو السادس الميلادي لأسباب دينية وعداء للفلسفة، فحطت رحالها في الاسكندرية وأعادت الاهتمام باللغة اللاتينية وتقعيدها وألفت الكتب النحوية التعليمية
في العصر الحديث وقع اتصال العرب بالغرب على مستوى واسع في القرن التاسع عشر مع نضج التوسع الاستعماري الغربي وسهولة المواصلات، وفي هذه الفترة كان التوجه الرومانسي أو بقاياه سائدا. كان أهم ركائزه "المؤلف" خاصة الشاعر وشعره. هذا المبدع الغريب الذي لديه مداخل إلى الحقيقة لا يمتلكها غير الشعراء. فأصبحت لغته وسيرته الذاتية وكل ما يتعلق به مفاتيح لمغالق شعره فظهر نقد السيرة. إذ أصبحت مهمة الناقد جمع بيانات الشاعر وتتبعها في شعره وتفسيره لدرجة غابت قصائده تحت أكوام المعلومات الشخصية. هنا تحولت "شخصيته" إلى بؤرة ينطلق منها الدرس النقدي والأدبي، فصرت تسمع عن "عاطفة الشاعر وصدقها" وتصويره للطبيعة بحيوية ناطقة وتأخذ عنه معايير الحياة وقيمها: أصبح الشاعر نبيا
لا زال النهج المدرسي اللاتيني والرومانسي قائما في المرحلة التعليمية الإلزامية (ما قبل الجامعة) والتعليم الجامعي العربي سليل التعليم الإلزامي. لذلك ليس للعرب نظرية نقدية أو أدبية غير ما جاد به النحويون والبلاغيون القدماء وقد أبدعوا في عرض مادتهم وتعليمها وحفظها، لكنهم أو من جاء على أثرهم لم يستطيعوا أن يخرجوا من أطرها وسياجها. الموروث أصبح مقدسا قدسية الدين والخروج عليه كفر. حتى الهمزة أصبحت معيارا على درجة من الأهمية والويل والثبور وعظائم الأمور لمن أهملها عن علم والتوجيه اللطيف المشروط بعدم اهمالها بعد التوجيه اللطيف. يريدونك أن تعود لمرحلة معينة من تاريخ الكتابة العربية. مقبول كل ما يضمن سلامة الصوت (زلت اللسان عار وزلت القلم شنار) من النقط والشكل والترقيم وما قد يستجد من الأعراف. (عندي طبعة مطبوعة لمقدمة ابن خلدون ليست بها فواصل أو فقرات أو همزات فكيف كانت في مخطوطتها قبل الطبع؟)
سلامة اللغة بالتأكيد مهمة، وممارسة الكتابة تكون مثمرة حين يكون لتعليمها منهجية وهدف، والكتابة النقدية لابد لها من إطار نظري ومنهجية صارمة وأسلوب عرض خال من الدهون والاستطراد الزائد، تبدأ من نقطة وتثبتها وتنتهي، لا أن تكون البيان والتبيين ولا أن تكون أطروحة جامعية يجر كاتبها مجلداتها الستة على ناقلة ويفتخر
قراءة الفاضل محمد فهمي يوسف جاءت ضمن هذا السياق النقدي التاريخي وفرّع عليها الأستاذ عمار عموري وعمقها ولعل بعض العجلة النتية لم تسعفه ليربط ملاحظاته في خاتمة تقييمية. قراءة الأستاذ نور الدين لعوطار اختارت الهوة بين الأنا والآخر ومضى بها راتقا الفجوة بعدة خيوط ليجمع الأنا بالآخر والقبول أخيرا بـ"العيش مع" (الكينونة في الكون مع [الآخر]). ميولي طبعا مع قراءة لعوطار، لكن هل كان يستطيع هو أو غيره دون معرفة ما جاد به الأستاذين قبله؟ لا أظن أن ناقدا يستطيع ذلك لو لم يكن يعرف اللغة وما تكتنزه من ذاكرة وأعراف بلاغية. الطرح المدرسي مهم ومهم جدا لممارسة الكتابة النقدية الحديثة. فمن لا يعرضها في طرحه هو بالتأكيد يفترضها بمن يقرؤن ما يكتبه الناقد
لو كنت ناقدا لقرأت القصيدة من مركزية الرواية (narrative/recit). فالمقطوعة الأولى رواية الشاعر(ة): "يقولون" ثم تتحدث بلسانها لتروي محاسنها. فالكلمة الأخيرة كما هي الكلمة الأولى لها وحدها، وروى غيرها: (يقولون أنك خنت حبي/ ولم تحفظ هواي ولم تصني
تقبلوا تحياتي وتجاوزوا
تعليقات