بلاغة الأسلوب بين الذِّكْرِ والحَذْفِ

هذا المعنى ــ الذِّكْرُ أو الحَذْف ــ في جمال الأسلوب البلاغي ، باب مختلفٌ عن باب الإطناب والإيجاز ، ففيه توضيح متى يكون الكلام يحتاج إلى ذكر المحذوف من الأسلوب ومتى لا يحتاج إلى ذلك ؟، وأيهما أفضل ؟ وهل الأفضلية واجبة أم جائزة لاتعتبر خارجةً عن القواعد البلاغية المُؤديةِ إلى سلامة اللغة وفصاحتها ؟ ونقطة مهمة ترد على ذهن الكاتب والأديب عندما ينتهي من هذا الدرس عن الحذف والذكر ؛ يسميها البلغاء من العلماءِ المُسَاوَاة في الأسلوب بمعنى أن تكون كل كلمةٍ من أسلوب الكاتب أو الأديب متتمة لمعنى لايمكن حذفها أو إضافة في أسلوبه حيث سيصبح أسلوبَه خارجا عن أصول البلاغة الصحيحة . ومثال المساواة التامة إذا قلت : رأيتُ الأميرَ اليوم في الحديقةِ راكبا جوادا .وأنت تريد أن تدل السامع والقاريء على هذا المعنى كاملا فلا يجوز لك أن تحذف لفظا من هذه الجملة إذ لا يمكن معرفة معناه إذا حُذِفَ. وتطبيقا على مثال الحذف في الأسلوب : إذا سُئِلْتَ : وأين ذهب الأميرُ بَعدُ ؟ ، يجوز أن تقول : : الأمير عاد إلى قصرِه ، أو تحذِف المبتدأ فتقول : عاد إلى قصره . فأيهما أفضل ؟ أن تحذفَِ الأمير للعلم به من قرينة السؤال ؟! أم تذكرهُ لتؤكد الكلام وتعطيه قوة وجمالا ؟ وهنا نجد علماء البلاغة قد ذكروا أحيانا ما يجوز أن يُسْتَغْنَى عنه ، وحذفوا ما لا مانع من ذكره ، فرجحوا الذكر أحيانا ، والحذفَ أحيانا ؛ لأسبابٍ بلاغيةٍ اقتضتْ ذلك . أكثر ما يكون الحذف فيه من الجملة هو المبتدأ نحو قول الشاعر مادحا : سَأَشْكُرُ عُمَرًا إن تراخَتْ مَنِيَتٍِي ** أَيَادِيَ لمْ تَمْنُنْ وإن هِيَ جَلَّتِ فَتًى غيرُ مَحْجُوبِ الغِنَى عن صديقِهِ**ولا مُظْهِرِ الشَّكوى إذا النعل زَلَّتِ والشاعر يريد : هُوَ فَتًى فحذف المبتدأ جوازا مقبولا لوجود القرينة الدالة عليه بعده وقبله في البيت السابق ، وأكثر ما يكون ذلك حين يبدأ المتكلم بذكر شيءٍ ويُقَدِّم بعض أمره ثم يدع الكلام الأول ويستأنف كلاما آخر يلتحق به. فالحذف أكسب القول جمالا وقوة يذهبان لو ذكر .ويحذفُ المبتدأ كذلك لانتهاز الفرصة كقولِك للصيادِ : غزالٌ تريد هذا غزال ، أو للصائد من البحر وأنتما تنظران للسَّنارة : سمكةُ وتريد هي سمكة أو هذه سمكة. يأتي بعد المبتدأِ في كثرة الحذف : الفاعل ، حين لا يتعلق الغرض بذكره كما في قوله تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذُكِرَ الله اللهُ وَجِلَتْ قلوبهم ، وإذا تُلِيَتْ عليهم آياتُه زادتهم إيمانا ...) فَبُنِيَ الفعلان ذُكِرَ وتُلِيت للمجهول لعدم تعلق الغرض بشخصي الداكر والتالي ، وقد يكون الحذف للجهل به كأن ترى مدرسة في إحدى القرى فتقول مُخْبِرًا : بُنِيَتْ في قريةِ كذا مدرسةٌ ؛ لأنك لا تعلم الباني ، أو قُتِلَ فلانٌ لأنك لا تعرف القاتل . ثم يأتي بعد المبتدأ والفاعل في كثرة الحذفِ : المفعول به ، حين تريد وقوع الفعل بقطع النظر عن مايتعلق به والمثال على ذلك قول الله سبحانه وتعالى في الآية : قُلْ هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون )والمعنى : هل يستوي من له علم ومن لا علم له؟ بقطع النظر عن أن يكون المعلوم طِبًّا أو حِسَابًا أو تاريخا ...إلخ . وتقول أيضا في الوصف : فلان يعطي ويمنع ، ويضر وينفع ..تريد إثبات الأفعال في عمومها له ، ولو قلتَ : يعطي المساكينَ أو يعطي الذهبَ لكان في قولك قَصْرٌ للعطاء في حالة مخصوصةٍ وكأنك ترُدُّ بذلك على من ينكر أنه يعطي المساكين أو أنه يعطي الذهب لأنك تريد الإعطاء في عمومه وشموله وهو ما أردت مدحهُ به. ومن هذا قول البحتري في الحذف : إذا أَبْعَدَتْ أَبْلَتْ وإنْ قَرَّبَتْ شَفَتْ ** فَهِجْرَانُها يُبْلِي وَلُقْيَانها يَشْفِي فالشاعر لم يقل أَبْلَتْنِي وَشَفَتْنِي لأنه أراد ماا هو خيرٌ من هذا وأبلغ في المدح ؛ أراد أنَّ بُعْدَها في ذاتِهِ داء ، وأن قربها شفاء ولا سبيل أن يجعل لها هذا الأثر إلا بحذف المفعول . وللدرس بقية إن شاء الله

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأوامر الإلهية في الآيات القرآنية

البلاغة والمجاز

الكلام ، والقول والحديث ... ( فروق لغوية )